الاثنين، 18 يناير 2016

لوهلة !!






هل إنتباتك أفكار فجائية ، أتت في لحظة غير متوقعة لتعيد ترتيب ما سبق ، هكذا بدون إستئذان ؟

حسنا ..

 أظن أننا نمر جميعا بمثل هذه اللحظات ، وتغزونا مثل هذه الأفكار ، لهذا أنا أكتب لكم اليوم تدوينتي الأولى بعد انقطاع دام سنة وثمانية عشر يوما بالتحديد!

لوهلة !

ظننت ذات يوم أن البقاء في المنزل بعد مشوار دام أربع سنوات ونصف في الجامعة - إذا ما أسقطت الفصل الذي عملت فيه بشكل المؤقت فيها - يعد جنونا غير محتمل ، لذا كنت أدع الله كثيرا بأن أحضى بوظيفة في أقرب وقت ، فالبقاء في المنزل شبح ملل كئيب خفت من احتمال ملاقاته !

ولوهلة ..

شعرت بالحزن لوظيفة كانت محتملة ولكنها لم تكن !

ولكن بعد مرور أشهر وأنا ما  زلت في المنزل بلا وظيفة مستقرة إلا أنني أدركت اليوم أكثر من أي يوم مضى ، أنني سعيدة بالفرص التي ضاعت وبتلك التي لم تأتي بعد !

أستطيع أن أقول وبكل ثقة ، أنني إكتشفت ذاتي هنا " في المنزل" !

أنا اليوم أعمل على مشروع صغير خاص بي ، لكنني أعمله بكل الحب ،، وفي كل يوم أجدني مهتمة بتعلم شيء جديد فيه ..
رغم أن والدتي العزيزة كثيرا ما تقول " إن شاء الله تتوظفي وتتركي هذا عنك " !
لكنني وفي كل مرة أبتسم لها وأقول : " لن أتركه حتى إن توظفت ".. لأنه ببساطة " أنا "

أنا اليوم أشارك في أنشطة نسائية تطوعية ، قد تكون بسيطة لكن غايتها كبيرة ! ويزداد في داخلي يقين أن تغيير المجتمع ممكن  بإرادة الشباب ، لن يتغير المجتمع بتنظير لا يلامس الواقع فيه .. اقترب من المجتمع ستدرك حينها مالذي يجب أن يتغير حقا
ولاشيء أجمل من نحدث تغييرا ولو بسيطا في قلوب الناشئة الصغار أعمدة المجتمع غدا . إن الأمر ليس مستحيلا بأي شكل من الأشكال..


أنا اليوم أكتب في  جريدة مع مجموعة من الشباب الذي لم أفكر لوهلة أن القدر سيضم إسمي بين قائمة أسمائهم ،،

 هذا الحلم الذي تكون في داخلي مع أول صرخة لمعلمة اللغة العربية وأنا بالصف العاشر ، عندما قالت بثقة أمام الجميع " ستكون هند كاتبة  !" رغم بساطة السبب الذي دفعها لقول ذلك إلا أنها بثت في داخلي شيء يشبه الخيال!
ممنونة أنا لها اليوم ، ولمن أتاح لي فرصة  تحقيق جزء من ذلك الحلم.. ولتوفيق لله قبل كل شيء

ما زلت في البيت بدون وظيفة  حلمت بها ، لكنني في المقابل ما زلت إلى اليوم  أستطيع أن أجد الوقت لكي اضحك بملئ قلبي على مشهد طريف في مسلسل،  مازلت أجد الوقت لهوايات أحبها ، وفي كل يوم تجربة جديدة !
 مازلت أجد الوقت لأمشي مغمضة العينين بعيدا عن كل شيء ، متحدثة بصوت عالي مع نفسي التي اراها وتراني ! مثلما كنت أفعل في الماضي تماما ..

وأنا أفعل ذلك اليوم ، توصلت لقناعة مهمه وهي " أنت ستكون أنت ، سواء كنت في البيت أو في آخر الدنيا "

إذا ما أردت أن تحدث في الحياة فارقا ، يمكنك ذلك ، فكم من شخص يذهب في كل صباح إلى مكتبه الفخم دون أن يضيف للحياة شيء جديد ! وكم من شخص في منزله مأسور في قفص الروتين الممل !

لأن المسألة المهمة لا تكمن هناك ، في المكتب أو في البيت ، أنت هو أنت ...

توصلت لهذا لأنني كنت أدعي الله بوظيفة أحدث بها تغييرا في مجتمعي ، واليوم أدركت كم كان دعائي قاصرا جدا ! أستطيع فعل ذلك حتى وإن لم أكن موظفة ، لست أدري إن كان ذلك الدعاء تغطية لشيء في داخلي ، الله وحده أعلم به مني ، لكنني استيقضت من الوهم وهذا ما يهمني .

لكن رغم هذا كله .. لا يعني أبدا أنني سأقنع بالبقاء في البيت ، او أن أقنعك  أنت بالبقاء هكذا فيه ،  فليس هذا هو جوهر حديثي في هذه التدوينة

إيجاد وظيفة أذهب لها بحب كل صباح هو حلم آخر سأبذل ما بوسعي لأصل إليه ، فلا أجمل من أن توسع رقعة الأثر التي سنتركها ذات يوم خلفنا ..

ما أريد أن أقوله يا صديق.. يا من تتذمر ببقائك في المنزل ، أو ربما أنت الآن تتذمر في وظيفتك ،،  لأنك ببساطة لا تفعل ربما سوى التذمر ، انظر لنفسك قليلا .. اجعلها محطة لابد أن تنطلق منها .. فالحياة يا صديق لا تنتظر المتأخرين..

قبل أن تحظى بوظيفة اسعى جاهدا لشغل الوقت الناجم عن عدم توفرها ،، وقبل أن تغادر وظيفتك بعد أن يمر قطار العمر اغتنم الفرصة فيها ، لتتركها بعد ذلك وقد كنت شيء يستحق أن يذكر.

أخيرا تذكر يا صديق .. لوهلة قد نظن جميعا  أن العالم أدار ظهره لنا ، لسبب أو لآخر .. لكن .. وأنت تظن ذلك إلتفت قليلا لنفسك.



 

الأحد، 4 يناير 2015

أمطار من ذكريات






انهيت قبل قليل قراءة فصلين آخرين من رواية "سجينة طهران" ولأن المذاكرة تنتظرني وتحثني على الاسراع اضطررت الى تركها قليلا ..وأنا أغلقها قلت في نفسي " جميل أن يملك الانسان أحداثا مميزة في حياته، أحداث تستحق التدوين فعلا "
وفي تلك اللحظة عادت بي ذاكرتي إلى الوراء وكأنها تريد أن تؤكد لي أنني أملك ايضا مثل تلك الذكريات والتي أعدها نقطة تحول في حياتي..


***

كنت في 12 تقريبا ، عندما اجتمعت مع قريبتي ليلا أمام منزل جدي - عليه رحمات الإله - راحت ابنة عمي التي تصغرني بعامين تقص علينا احداث رواية جميلة ، كانت بعنوان "بول وفرجيني (الفضيلة) " أحد ترجمات المنفلوطي. 
عندما كانت تحكي كنت اتخيل الأحداث ، الأماكن والأشخاص، أستطيع أن أقول بأنني سحرت بتلك الرواية التي اختصرتها ابنة عمي الصغيرة ، قالت لنا ان لديهم روايات كثيرة مثلها.


وأذكر انني عدت الى البيت يومها وانا افكر في تلك الأحداث التي ترسخت في مخيلتي ، وعقدت العزم على ان اطلب منها ان تعيرني احد الرويات في اليوم التالي.

وذلك ما حدث ، ذهبت الى منزلهم ليلا لأتفاجئ بتلك المكتبة التي كانت عامرة حقا بالكتب ، وقتها ثرثرت كثيرا مبدية اعجابي الكبير بما ارى ، رحت افتش عن الروايات التي يشدني عنوانها ، وقد اخذت في تلك الليلة رواية أخرى من ترجمات المنفلوطي . 

منذ ذلك اليوم والى ان دخلت الجامعة وانا استعير الكتب من ابنة عمي، كنا عندما نجتمع سويا نتحدث مطولا عن الأحداث التي جرت في الرويات التي كنا نتبادلها. وقد تبادلنا في احد الاجازات ما يربو الى 40 رواية معظمها للكاتبة " أجاثا كريستي " -كاتبتي المفضلة في ذلك الزمن الجميل- ، كنت في بعض الايام افتش في مكتبة المنزل عن كتب اقرأها . لكنني لم اجد أية روايات ، اذ لم توجد في مكتبة منزلنا الا روايات اخي القديمة جدا والتي كانت باللغة الانجليزية .

 كنت في بعض الاحيان احدق فيها وانا اتمنى في داخلي لو ان لدي عصا سحرية لتحول الكلام الى اللغة العربية ، لأنني لم ابدي اي استعداد لقرائتها بالانجليزية ابدا. 

  كانت معظم الكتب في المنزل هي لوالدي تختص بالتاريخ ودواوين الشعر ، وكتب اخوتي التي لم تكن تستهويني غالبا.
اذكر اني وجدت ذات يوم كتاب "العلم يتبرأ من نظرية دارون" شدني غلاف الكتاب دون أن أعبأ كثيرا بالعنوان ، فرحت اقرأه وبدون أن  اشعر وجدت أني قطعت شوطا كبيرا فيه  ، وما زلت أذكر ضحكات اختيّ عندما شاهدتاني اقرأه على اعتبار أنه كتاب اكبر من سني على حد زعمهما ! لكنني أدركت يومها ان هناك الكثير من الكتب في المنزل التي يجب ان اقرأها أيضا عدا الرويات..

***

وما زلت أذكر ذلك الكيس المملؤ  بروايات الجيب البوليسية التي احضرتها لي صديقتي ،  كنت احرص على إنهاء واجباتي فترة الظهيرة لأعكف عليها باقي اليوم .
 ولا انسى تلك الجلسات المطولة التي كنت وزميلتيّ نعقدها في فترات الاستراحة احيانا ، نتحدث فيها عن اجمل ما قرأنا وقد يعلو صوتنا وكأننا نتناقش في امر خطير ، لقد كانت  تلك الجلسات من اجمل الأوقات بالنسبة لي.

***
وعندما دخلت الجامعة كان اول مكان تلهفت لزيارته هي المكتبة ، عندما اشار اخي الى مكانها تطلعت بشوق لليوم الذي سأدخلها فيه. 
وفي المكتبة اخذت حقا بمنظر الكتب ، وقد بدت لي المكتبة ككنز ثمين، كنت في كل مرة اعود فيها الى البيت محملة بكتب اعظمها روايات ضخمة الى ان سمعت التوبيخ من اخوتي ؛خوفا منهم ان يكون وقتي كله للروايات وليس للمذاكرة ، ولذا فإنني ومنذ ذلك اليوم حرصت على انهاء الروايات التي استعيرها في الجامعة وإن اخذتها معي الى البيت اقراها بعيدا عن اعينهم.


واصبحت لدي عادة  محببة ، وهي انني عندما اقرأ اتخير مكانا منعزلا ، لا اسمع في اي صوت ، مكان لا اجد فيه من يقطع علي خلوتي. حتى وإن كان هذا مكان هو آخر زاوية في مزرعة المنزل ، حيث اختبئ عن كل ازعاج يقطع عليّ جو القراءة.


***
 
ومما اذكره ايضا وأود تسطيره في هذه التدوينه ، أنني ذات يوم وبعد عودتي من المدرسة - وقد كنت في المرحلة الثانوية حينها - أخذت اتصفح الجريدة التي كان يحضرها والدي الى البيت من عمله ، قرأت في ملحقها "شرفات" مقالا يتنبؤون فيه ان جنس الرويات الأدبية سوف يندثر في المستقبل ، ما زلت اذكر شعور الخوف الذي اعتراني في تلك اللحظة ، ورحت اقنع نفسي انه من المحال ان يندثر ، كيف يندثر وقد كنت في تلك الأيام احلم بأن اصبح روائية ! كيف يندثر وقد كانت الروايات أحد أجمل الأمور  التي حببتني في القراءة ، وجعلتني أشتهي منظر الكتب!

*** 
لقد كان سر عشقي للروايات الأدبية هو أنني وجدتها ترضي ذلك الجانب الخيالي لدي ، وأصبحت بدلا من أقضي الوقت على سطح المنزل لألعب وأعيش في العالم الآخر الذي وصفته اختي ذات يوم ، اقضيه في قراءة تلك الروايات التي اشعر مع كل رواية اقرأها أنني احد شخصياتها ، لم أكن أعبأ إن سهرت الليل بطوله لأكمل ما تبقى لي من فصول ، وعندما كبرت قليلا رحت اركز على اشياء اكثر دقة ، لقد ادركت ان اغلب الروايات التي بين يدي تحمل معاني اخرى بين السطور ، وكانت تلك متعة أخرى استلذ بها ، دفعني الى القيام بهذه الخطوة هو تحدي قام بيني وبين اخوتي الذين كانوا يرون في الروايات مضيعة وهدرا للوقت ، لذا رحت افتش بين الزوايا عن شيء مقنع اخبرهم انني خرجت به من قرائتي .

سعييدة حقا لأنني عشت شطرا من اجمل ايام صباي حاملة مثل هذه الذكريات ، يوم كانت الكتب هي المتنفس الوحييد الذي نقضي به اوقات فراغنا.

*** 


على كل يبدو انني اسرفت في التذكر والكتابة وجزء من الوقت قد فر هاربا ‘ وعلي تدارك ما بقى لأعود الى تلك المذكرات التي تنظر إلي شزرا ، غاضبة  ربما لتركي لها كل هذه الفترة.

الخميس، 1 يناير 2015

في تأبين عام منصرم


1 يناير 2015

عام افل نجمه ، بكل ما احتواه من لحظات سعيدة وأخرى حزينة . أرواح فارقناها ، وأخرى نعيش على أمل رؤيتها من جديد ؛ لنترافق سويا عاما آخر.
اشخاص جدد جادت علينا الأيام بمعرفتهم، وتجارب ندعي أننا سنتعلم منها في قادم الأيام لنكون أفضل..
خطط وأحلام تداعبنا وتدعونا الى التفكير بها بجد .وصلنا لنهاية العام لندرك حقا أننا تغيرنا بشكل او بآخر..ففي حقيقة الأمر ننا نحن من نتغير وليس السنوات.. ولكن السؤال هنا " ما شكل ذلك التغيير الذي طرأ علينا ؟ "

***

عندما استيقظت اليوم واطّلعت على التقويم حدقت مليا في التاريخ المكتوب ، ها نحن قد بدأنا عام جديد اليوم، فتحت النافذة لأرى كم هو جميل هذا الصباح، غير أن الصباح هو هو لم يتغير ، الذي تغير ربما هو شيء في داخلي جعلني أعتقد أن هذا اليوم مختلف ، وأن هذا الصباح لا كأي صباح ! فقط لأن اليوم هو افتتاح لسنة ميلادية أخرى .

ولأن نفوسنا جبلت على حب كل ما هو جديد فإننا غالبا ما نستبشر خيرا عندما نبدأ خطوة جديدة ، ونتعاهد مع أنفسنا أننا سنبذل الأفضل ، ونعقد الآمال على اننا سنفتح صفحة جديدة ، كعادتنا دائما في بداية كل فصل دراسي مثلا، او في بداية اول يوم لنا في سلك العمل ، فرغم ما قد يخلفه الانسان وراءه في عام منصرم ،إلا ان سحر البداية يغري معظم البشر لعقد صلح جديد مع حياتهم.. فما يهم الآن هو القادم وما الماضي بكل ما احتواه الا دروس ، جرعات نقوى بها في قادم الأيام.

***

هناك من يخشى من المستقبل ويمزج لون الماضي به فإن كان ماضيه مليء بالانتكاسات واللحظات المؤلمة نجده يلقي بظلال ماضيه على مستقبله! أليس الأجدر بنا ان نرى في المستقبل صندوقا ملونا ، صندوق مفاجآت لا أقول أنها ستكون دائما سارة ، ولكنها على أية حال لا يمكن أن تكون كلها مؤلمة ! كتعاقب الليل والنهار لا بد أن نؤمن بحقيقة تعاقب الفرح والسرور أيضا.

لعلنا إن نظرنا إلى كل يوم على أنه بداية  جديدة لحياتنا لاستبشرنا بالخير في كل صباح ، فلما ننتظر اثنى عشر شهرا لنجدد الآمال ونرسم الخطط؟ لما ننتظر كل تلك الشهور لنفرح ملئ قلوبنا بانقضاء العام وقدوم عام آخر! نعم نحن  بحاجة إلى تقييم ذواتنا في مدة في مدة أطول ، وننظر كيف كنا طوال تلك الشهور لنعرف كيف ينبغي أن نكون ،  نحن بحاجة لذلك فعلا لكن دون أن نصبغ الأيام التي تتخلل تلك الشهور بصبغة واحدة وإيقاع واحد رتيب.

***

وبما أن العام الجديد قد تنفس الحياة اليوم ، فإن ما نحتاجه لنزيد من انتعاشه هو خطة سير واضحه ، وأهداف مرسومة ، وروح جديدة تهتف لنا من الداخل بأننا نحن من يصنع الأيام وليست هي من يصنعنا ، عام قد أشرق فلنكن فيه كما نريد أن نكون.

الجمعة، 24 أكتوبر 2014

سياج الحرب والحب



  ذات صباح مغطى بأكوام الغيوم ، انطلق سعيد إلى الزاوية الصغيرة التي كانت بمثابة المقهى الذي يجمعه برفاقه ، مدندنا بأغنية شعبية بهيجة ، حيته عجوز كانت تنثر الحبوب للطيور من نافذة بيتها الطيني ، رد عليها بمرح وأكمل طريقه مغمضا عينيه محاولا تذوق كلمات الأغنية ولكنه شعر فجأة بكتف عريض يصطدم به جعله يوشك على الوقوع أرضا  بعد أن إختل توازن مشيته ، فتح عينيه ورأى صاحبه مرهون يجري مسرعا وكأن شبحا مريعا يتعقبه.  
صرخ سعيد غاضبا وقد غاضه تصرف صديقه :  
- يا مجنون ألا يمكنك أن ترى من يمشي أمامك ! 
لم يلتفت إليه مرهون واكتفى بالصراخ : 
 - حدث جلل يا صاح الحق بي بسرعة. 
  
وفي تلك الزاوية المحشورة بين ثلاثة بيوت طينية خربة وصل سعيد ومرهون وكل منهما يحاول التقاط أنفاسه ، في الوقت الذي كان فيه كل من خالد وعبيد يشربون قهوتهم الصباحية.  

رفع خالد حاجباه متسائلا :   
- مالذي دهاكما في هذه الساعة؟ 
 نظر سعيد لمرهون وغضبه لم يهدأ بعد : 
 - تكلم الآن اي خطب جلل ذلك الذي حدث؟  
- أعلنت الحرب يا رجال. 
صرخ الجميع بذهول : 
 - الحرب ! حرب من مع من ؟  
مسح مرهون حبات العرق المنسابة على جبينه وقال :  
- حرب بيننا وبين قبيلة  غفر عدل خالد من جلسته وارتشف آخر ما تبقى في فنجان قهوته  : 
- وما الذي حدث لتقوم الحرب بيننا !! 

  تمهل مرهون قبل أن يجيب وهو يقلب بصره في الوجوه الواجمه أمامه : 
- بالأمس عندما  كنا في سبلة القرية ، حدث جدال حاد بين شيخ قبيلتنا وشيخ قبيلة الغفر حول البئر التي حفرت مؤخرا..شيخ قبيلتنا يقول أن البئر توجد في أراضينا لذلك هي لنا ، في حين أن شيخ الغفر انزعج وقال أن رجال قبيلته هم من وجدوها.. اشتد الخلاف واشترك الجميع فيه ، كل يساند شيخه ، حتى اؤلئك الذين جاؤوا مؤخرا شاركوا في معركة الألسن التي ثارت .  
حاولت مع مجموعة من الرجال تهدئة الوضع  ، لكن المخادع سويلم استطاع بلسانة الذي يقطر سما أن يزيد من حدة الموقف ، فلم يلتفت لنا أحد. 

قطب عبيد حاجبية وقال بانزعاج :
 - يال السخف كيف لبئر ان تثير الحرب بيننا !  
- ليت الأمر يا رجل توقف عند قضية البئر ، بل انها تشعبت وأصبحت اكثر تعقيدا ، بعد أن أثار مريدو الفتن حادثة القتل التي حدثت قبل عشرين سنة والتي اخمدها شيخ الاصلاح الراحل - رحمة الله على روحه -  وما تلى تلك الحادثة المشؤمة من أحداث. بإختصار لقد نبشوا الماضي المدفون نبشا مريعا ! 

   مرت لحظة صمت بين الأربعة ، ثم اتجهت الأنظار إلى سعيد الذي كان مستندا على الجدار الطيني محدقا في الأفق بذهول.  
ضربه مرهون على كتفه وقال:  
- مابك يا رجل هل عقد لسانك ! نحن منشغلون بهذه الحرب اللعينة التي ستحدث وأنت واقف هكذا كأن الأمر لا يعنيك !  
ردد سعيد في داخله " لا يعنيني !! " 
ثم قال بصوت واهن كأنه يخاطب نفسه مجددا : 
- ومتى ستبدأ هذه النار التي لاحت بدخانها  لنا بين ليلة وضحاها؟  
 - لقد  اقسموا أنها ستبدأ بعد ثلاثة أسابيع  وقبل ذلك سيتم وضع حاجز سلكي يفصل أراضي القبيلتيين عن بعضهما.   

 تفرق الأصدقاء بعد أن يأسوا من ايجاد حل لهذه المعضلة التي داهمت أمنهم.  
وفي  طريق عودته راح سعيد يفكر في حبيبته ، ومصير حبهما بعد هذه الحرب التي قطعا ستفرق بينهم !  

 وعندما كان الرجال من كلا القبيلتين يثبتون بإحكام ذلك السياج الفاصل ، كان سعيد يراقبهم من بعيد ، والوجع في قلبه قد تضخم. لم يستطع الاقتراب منهم خوفا من أن تفضحه مشاعره أمام الرجال الغاضبين ، المحرَكين من قبل الفتنة السوداء التي أسقطها أحد الخائنين بينهم.  

وعندما رسخت جذور السياج في الأرض انتشر الجميع عائدين إلى اراضيهم مطمئنين ، كأن عقدة من الخوف من الآخر قد فكت !   

فكر سعيد في خطة تجمعه بحبيبته ليلى لعلهما يستطيعان التفكير معا في سبيل للهرب من هذا الجحيم الموشك على إلتهامهم جميعا.  بعث برسالة لها ، يخبرها فيها بموعد لقائهما ، عندما تخضع القرية لحكم الليل وتبتلع البيوت ساكنيها. 
أحكم ربط رسالته العاجله في رجل حمامته البيضاء التي كانت رسول المحبة بينهما منذ مدة طويلة.   
 كانت ليلى تستعد للنوم  عندما سمعت هديل الحمامة على نافذة غرفتها.
أمسكت بالرسالة التي انتظرتها في شوق عارم ، وراحت تقرأها وقلبها ينتفض خوفا من مستقبل بدا غائما كئيبا. 
قررت بعد صراع داخلي المخاطرة والتسلل من البيت إلى مكان اللقاء الموعود.   

وعند السياج تشابكت أيدي المحبين،  كل واحد منهما كان يحاول أن يبث الأمل في داخل الآخر..الأمل الذي لم يوجد حينها في قلب أيا منهما ! . 
 لكن الحب الذي لم يأبه لجور الظروف راح يمنيهما بغد أكثر إشراقا.   
ومنذ ذلك اللقاء الأول عند السياج تعددت اللقاءات بين الحبيبن اللذان كانا يرسمان معا خطة مناسبة للهرب.كانت الأسلاك رغم قسوتها حانية عليهما ، مشفقة لحالهما ، فوجدا نوعا من الأمان بقربها.  
وفي اليوم الخامس من بدء لقائهما راح سعيد يشرح لليلى المسار الذي يجب أن يتبعه كل منهما وأخبرها بمكان لقائهما.  وقبل أن تفترق الأيدي المتصافحة سمعا صوت بوق آتيا من البرج البعيد ، نافضا ذرات الليل الساكنة.  
ضغط سعيد على يدها وهمس : 
- لا تخافي ، لابد ان نبقى ساكنين حتى لا يشعر بنا أحد.   

لم يكونا يعلمان سر تلك الاشارة الصوتية. التي اتفقت القبيلتين عليها للإخبار عن وجود من يحاول خرق القوانين ويعبر من السور ، او إحتمالية وجود متجسس من القبيلتين. 
خرج الرجال من كلا القبيلتين للقضاء على الخائنين. 

 أمسك صابر سلاح الكند وصوب فوهته  نحو سعيد وصرخ : 
- قف مكانك أيها الجاسوس الخائن.  

وقبل أن يتمكن سعيد من الالتفات كانت الرصاصة قد تمكنت منه بلا رحمة. 

صرخت ليلى خوفا من هول ما حدث  ، وقد مدها القمر بما يكفي من النور لترى سعيد مضرجا بدمائه ،  وقد زاغ بصره وخمد نفسه إلى الأبد ،  وقبل أن يقترب منها أهل قبيلتها ليكشفوا عن هويتها ، كان الرعب والحزن معا قد تمكنا من قتلها ، وسقطت من إثر ذلك جثة لا حراك فيها.  

 اجتمعت كل قبيلة أمام فقيدها وقد اخذهم الموقف ، كان المشهد هناك عند السياج مريعا. 
حبيبان طائشان قررا الانتقام لحبهما ، والتمرد على الحرب  الغاشمة فكانا أول  ضحاياها ! 

 ولكن الموت الجاثم أمام السياج لم يتمكن من إطفاء الحرب ، بل العكس من ذلك ، استعرت العصبية في كل قبيلة ، واضافوا ما حدث كسبب آخر لابد ان تقوم الحرب لأجله !.  

 وفي تلك الليلة عندما انسحب الجميع من جنب السياج حاملين في موكب بائس الجثمانين ، حطت على السياج حمامة بيضاء لا يزال في رجلها اليمنى خيط رسالة ، أدارت عينيها حول المكان  ثم طارت محلقة بعد أن عزفت مقطوعة هديل للراحلين.  


تمت.

الأربعاء، 10 سبتمبر 2014

رفات الذكريات..





يا نسمات المساء..~
ويا رائحة المطر العالقة في جزيئات الهواء..~
خذي معك هذا الرفات..
رفات الذكريات...
قالوا أنها ماتت..
كيف ماتت؟ 

ومتى كان ذلك؟
لست أدري!
لا تبالي احمليها..
ومن بيوت العناكب نظفيها..

يا تهاليل المساء..
احملي العهد المكلل بالدموع..
وانتقي صرحا بعيدا بين هاتيك الغيوم..
واحملي في طريقك باقة من الأزهار
من بقايا الليلك أو زهر الجلنار..
وانثريه حول الصرح
واطردي من حوله كل قبح
ذلك الرفات يا مسائي
يحمل بعض من ذكريات
وسديه في سلام
واحفظيه من أشباح الظلام

الجمعة، 29 أغسطس 2014

الفكر الشرقي القديم



ما أحوجنا في هذا العصر الذي نعيشه ، وفي ظل تحول العالم اليوم إلى قرية كونية صغيرة، إلى فهم الثقافات الأخرى التي تشاركنا العيش على هذه الأرض ، وحتى يتسنى لنا فهم الشعوب لابد لنا من فهم نمط التفكير الذي يسود في مجتمعاتها ، والعقلية التي يحاول بها الإنسان التعايش مع مختلف جوانب الحياة. ولأن الحياة الفكرية لأي شعب من الشعوب حياة تراكمية لا يمكن فصل ماضيها عن حاضرها فإن دراسة الفكر القديم يقودنا إلى معرفة القواعد الفكرية الأساسية التي ربما لا تزال تلقي بظلالها على طبيعة الفكر الحالي

 .

كما أننا كأفراد كثيرا ما نطرح على أنفسنا أسئلة فلسفية حول هذا الوجود، من أنا؟ ولماذا أعيش؟ وكيف ينبغي أن أعيش؟ وغيرها من الأسئلة التي قد لا نجد لها جوابا لحظيا وافيا، ولأن مثل هذه الأسئلة الوجودية مشتركة بين كل البشر فإنه من الجيد الاطلاع على تجارب الآخرين ومحاولتهم للإجابة عليها.

فمنذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض وهو في صراع من أجل البقاء، وقد دفعته رغباته وفضوله إلى التأمل في هذا الكون الذي يعيش فيه، ولعل هذه التأملات كانت هي المنطلق الأساسي للفكر الفلسفي. إذ أن قصة الفلسفة باختصار هي قصة التأمل البشري في الحياة، ومشكلات الحياة هي نبع الفلسفة ومحك اختيارها


وفي كتاب الفكر الشرقي القديم، يحاول مؤلفه جون كلر تقديم رؤية واضحة الملامح حول طبيعة ذلك الفكر البشري الذي وجد في الجزء الشرقي من هذه الأرض، بعد أن ساد اعتقاد مفاده أن الفكر الفلسفي لم يعرف إلا في اليونان على يد طاليس ومن جاء بعده من الفلاسفة، ولعل في هذا الاعتقاد ظلم كبير للفلاسفة الشرقيين الذين سخّروا حياتاهم كلها في سبيل تنوير العامة في مجتمعاتهم وتحسين الحياة، هادفين إلى رقي الإنسان والمجتمع.


وقدم كتابه هذا لأجل أن ينير القارئ ويبصره بطبيعة الفكر الشرقي ، حتى يتمكن من فهم العقلية الشرقية وأهم المشكلات الفلسفية الأساسية لدى الشرقيين، مؤكداً على تميز الفكر الشرقي بطابعه الخاص الذي يختلف عن الفكر الفلسفي الغربي المغالي في التجريد والبعد عن الواقع، في حين أننا كما سنرى من خلال ها الكتاب أن الفكر الشرقي منبثق من الواقع ومتصل به لدرجة أن الشرقيين أنفسهم يرفضون مسألة الفصل بين الفلسفة والواقع، فالفلسفة الشرقية لم تكن حكرا على الفلاسفة فقط ، إذ حرص العامة على فهم الحياة وممارسة التعاليم الفلسفية.


قسم كلر كتابه على ثلاثة أجزاء، تحدث في الجزء الأول عن الفلسفة الهندية، مضمنا فيه تسعة فصول، طارحاً في أولها أهم السمات السائدة في هذه الفلسفة، ولعل أهم ما اتسمت به الفلسفة الهندية بعد الثراء والشمول هو طابعها العملي إذ أنها نشأت نتيجة لتأملات فلاسفة وحكماء الهند ومن محاولاتهم لتحسين الحياة.وأوضح أهم دوافع هذه الفلسفة العملية والتأملية، فبالنسبة للدوافع العملية تمثلت في التعرف على الأشكال المألوفة للمعاناة من مرض وجوع ووحدة، والعلم بأن الموت سيحل في نهاية المطاف بمن حلت المعاناة بساحته، أما على الصعيد النظري فقد تمثلت دوافع هذه الفلسفة في حب الاستطلاع الإنساني الفطري،

وبين المؤلف هنا ماهية المعاناة في الفلسفة الهندية،التي كانت نتيجة لوجود هوة بين ما يملكه الإنسان وما يريد أن يملكه، أو بين ما يكونه المرء وما يريد أن يكونه، وكيف تعاملت الفلسفة الهندية مع المعاناة البشرية، وماهي الحلول التي اقترحتها لأجل للتغلب على المعاناة،فقدمت حلين أولهما يكون بالسعي وبذل الجهد لكي يصل المرء للحالة التي يريدها، والحل الثاني يكون بالقضاء على الرغبة الأساسية للحصول على تلك الحاجة، وشددت الفلسفة الهندية على هذا الحل لأنه يستوجب قدر كبير من ضبط النفس وتهذيبها، وكلما كان الإنسان أقدر على ضبط جماح نفسه كلما كان أقدر على التغلب على المعاناة، وبالتالي تتحقق السعادة والحياة الخيّرة.


كما قدم المؤلف في الفصل الثاني من هذا الجزء لمحة تاريخية عن الفلسفة الهندية، مشيرا إلى أنها تعود إلى 1500 ق.م ، وكانت بداية هذه الفلسفة عبارة عن تأملات فلسفية تعود لـ (الريج فيدا) وهو الكتاب الهندوسي المقدس الذي يتضمن مجموعة من الأناشيد لتمجيد الآلهة وترانيم تصاحب تقديم القرابين لها، وتناول مسألة الغموض الذي كان هالة تلف هذه الفلسفة فكان من الصعب تتبع الفلسفة الهندية زمنيا، ولأن التاريخ الهندي حافل بأمور بعيدة عن الدقة والوضوح فيما يتعلق بالأسماء والتواريخ فكان يتم التركيز على مضمون الفكر بينما كان التركيز على الأشخاص والأماكن محدود للغاية، لهذا في كثير من الحالات لا يعرف من هو المسؤول عن فلسفة بعينها، فعندما يكون مؤلف فلسفة ما مجهول يكون الزمان بالقرون وليس بالسنوات والتأليف ينسب إلى مدارس وليس إلى أشخاص. كما أوضح في هذا الفصل أهم فترات تطور التراث الفلسفي الهندي.


وفي الفصل الثالث من الفلسفة الهندية يتعرض الكاتب لذكر أهم مصادر الفلسفة الهندية وهما (الفيدا والأوبانيشاد) والفيدا هو الكتاب الهندوسي المقدس، بما فيه من أناشيد وترانيم مختلفة وألحق به الأوبانيشاد الذي يتضمن مجموعة من المحاورات التأملية التي دارت بين الفلاسفة وتلاميذهم، حيث كانت نصوص كلا من الفيدا والأوبانشياد هما مصدر الإلهام لدى الفلاسفة، إذ أنها تحمل الكثير من الأفكار التأملية والتصورات حول طبيعة النفس والواقع، وتطرق المؤلف أيضا إلى ذكر أهم ملامح ثقافة السند التي كانت منبع الكثير من الأفكار التي امتزجت مع الفكر الآري الذي انتقل إليها بعد ذلك مكونا بذلك المزيج الثقافة الهندية القديمة.


أما في الفصل الرابع فقد حاول كلر أن يكشف العلاقة بين الفلسفة الهندية والمجتمع، مسلطا الضوء على الكيفية التي يمكن بها تنظيم المجتمع وحياة الأفراد فيه من خلال تأملات الحكماء وأقوال الفلاسفة، بحسب ما نصت عليه نصوص الفيدا والأوبانيشاد، وموضحا في الوقت ذاته كيف لعبت المعرفة المنقولة إلى عامة الشعب من الفلاسفة والعرافين، والمتمثلة في القصص الخرافية والحكايات والقوانين دور مهم في حياة الشعب الهندي إذ كانت بمثابة الإرشادات التي ينبغي على المجتمع أن يسير على هداها والمثل العليا لنوعية الحياة التي يمكن أن تنظم المجتمع.

ولأن المرء لا يمكن أن يحقق قدر من التنظيم في حياته إلا بوجود أهداف واضحة، فإن الفلسفة الهندية قدمت أربعة أهداف إنسانية ينبغي أن يسعى كل مرء إلى تحقيقها، فقد رأت أن بتحقق هذه الأهداف يصل المجتمع إلى حالة الرخاء، ويحقق المرء هدفه الوجودي. وهذه الأهداف تمثلت في العيش الفاضل، وتوفير وسائل الحياة المناسبة وتحقيق لمتعة ومن ثم تحرير النفس.

وبين اهم القواعد الأساسية التي وضعتها الفلسفة الهندية لتحقق الحياة الكاملة، والتي تعين المرء على إجابة سؤال (كيف أعيش الحياة الخيّرة؟).

ولكي نتمكن من فهم الكيفية التي يتم بها تنظيم المجتمع الهندي كان لابد من التطرق إلى الطبقات الاجتماعية التي بُني عليها المجتمع الهندي، والطوائف الاجتماعية التي توجد فيه، موضحا دور الانتماء الطبقي والطائفي في تحديد الحقوق والواجبات لكل فرد من أفراد المجتمع، وتحديد الأهداف التي يجب أن يحققها الأفراد حسب الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها، وبالتزام كل طبقة بالأهداف الموكلة إليها يتحقق التكامل في الحياة والتوازن في التظيم الاجتماعي، بالإضافة إلى وجود أخلاقيات عامة يلزم بها الجميع بدون استثناء، متمثلة في اللأذى وكبح جماح النفس ومسامحة الآخرين...إلخ.

مشيرا إلى مراحل الحياة الثلاث التي يمر بها الإنسان حتى يصل إلى المرحلة التي يتحرر فيها من العالم المادي ويتمكن فيها من فهم ذاته كليا، ويتمكن فيها من تحقيق درجة عالية من ضبط النفس.


وعالج الفصل الخامس من الكتاب العلاقة بين النفس والعالم المادي الذي تعيش فيه بما في ذلك العالم الموضوعي الذي يتكون من ذوات أخرى وأشياء تجريبية، وتطرق إلى ذكر أهمية النفس باعتبارها أكثر واقعية من العالم المادي مثلما تشير نصوص الأوبانيشاد، وتحدث عن مفهوم السبيية وكيف تطور العالم من خلال مسبب واحد، وذكر أيضا أساليب ضبط النفس ومن أهم تلك الأساليب هي اليوجا التي تعد وسيلة مهمة جدا في الفلسفة الهندية لتحقيق الحكمة التي يتم من خلالها القضاء على الجهل، جهل المرء بذاته.


أما في الفصل السادس فقد ألقى الكاتب الضوء على العلاقة بين المعرفة والواقع، وكيف يمكن للمعرفة التي نمتلكها أن تبصرنا بطبيعة الواقع الذي نعيش فيه، وكيف يمكن أن نتأكد من أن المعرفة التي لدينا عن الواقع هي معرفة فعلا وليست مجرد رأي خاطئ؟ أي هل تكشف المعرفة عن الواقع فعلا أم لا؟ مشيرا إلى دور الحواس في نقل الصورة الحقيقة للواقع أو تشويهها، وانتقل بهذا إلى الحديث عن المعرفة الحسية كأحد أهم أنواع المعارف، وتطرق أيضا إلى ذكر أهم وسائل الحصول على المعرفة مثل الاستدلال والمقارنة.


ويتحدث الفصل السابع عن التغير والواقع، وتأثر الفلسفة الهندية بشكل كبير جدا بتعاليم الأوبانيشاد، وتعرض إلى ذكر الاختلافات بين المذاهب الفلسفية حول نظرتها للواقع، وتضارب وجهات النظر في هذه المذاهب حول وحدة الواقع أو تعدديته، والاختلاف في تحديد ماهي الواقع المطلق. وما علاقة الذات بالواقع الذي تعيش فيه من منظور كل مذهب فلسفي.


ويتطرق الكاتب في الفصل الثامن للحديث عن تطورات الآلهة، موضحا تجليات الإله في الواقع، ومدى إمكانية إدراك هذا الإله، ذاكرا دور التصور الحسي في إدراك تجليات الإله من خلال التنبيه بوجوده والإحساس الداخلي أو الإيمان بوجود الإله. كما تحدث عن أهم الآلهة الثلاث في الديانة الهندوسية وكيف أن لكل إله بعدا مختلفا عن الآخر، فالإله فيشنو مثلا هو القادر على الحفاظ على الحياة، بينما شيفا فهو القوة المدمرة التي تنحي القديم وتعطي المجال لكل ما هو جديد ، وكالي الطاقة الإلهية التي تتضمن قوة التغيير...إلخ.


ويتحدث الفصل التاسع عن أهم فلاسفة التجديد الذين أسهموا بشكل كبير في دراسة النصوص الفلسفية القديمة وتجديدها وإحياء تعاليمها، وأبدعوا في تقديم تفسيرات جديدة لها، ورغم تأثير الغرب في الفكر الهندي في القرنين التاسع عشر والعشرين إلا أنهم تمكنوا مع هذا التأثير من تجديد هذا الفكر، ومن الفلاسفة الذين يتعرض لهم هذا الفصل: موهانداس غاندي الذي حاول أن يستفيد من الفكر الغربي الحديث في تجديد النظام الأخلاقي القديم محاولا بذلك تقديم أساس للإصلاح الاجتماعي، وراداكرشان وأورويندو.


ويسلط المؤلف في الجزء الثاني من كتابه الضوء على الفلسفة البوذية، في ستة فصول، مبتدأ بالحديث عن التعاليم الأساسية في الديانة البوذية التي تهدف إلى التغلب على مختلف أشكال المعاناة التي يواجهها الإنسان في مراحل حياته المختلفة، ويمكن التعرف على هذه التعاليم من خلال التعرف على حياة بوذا الذي أوجد مجموعة من الحقائق النبيلة التي تحمل في مضمونها الرسالة الأساسية للبوذية، ومن خلالها يمكن للمرء أن يتعرف على المعاناة وأسبابها وكيفية التغلب عليها، ويتطرق إلى ذكر الطريق الوسط الذي توصل إليه بوذا لأجل التغلب على المعاناة وما يتضمنه هذا الطريق من مبادئ ثمان أساسية، لابد على المرء أن يستند عليها في سبيل مواجهة المعاناة.


أما الفصل الثاني من هذا الجزء فهو يتناول اهم الاعتبارات التاريخية في الديانة البوذية، وكيف أن كون المرء بوذي يعني التزامه التام بالتعاليم البوذية التي أشار إليها بوذا. وعن وضع الهند قبل أن تدخل إليها الديانة البوذية وتمتمزج مع أفكارها الفلسفية، كما يتطرق إلى أهم المجالس التي عقدت بين الرهبان البوذين والفلاسفة بعد موت بوذا والتي قامت نتيجة لاختلافهم في قواعد ضبط النفس التي حددها بوذا.

ويتحدث المؤلف في هذا الفصل أيضاعن أهم المدارس الفلسفية البوذية التي انقسمت ما بين مدارس واقعية ومدارس مثالية.


بينما يعالج الفصل الثالث طبيعة النفس حسب التعاليم البوذية، متطرقا إلى ذكر أهم مذهبين في البوذية وهما اللانفس والزوال، اللذان يتضمنان التعاليم الأساسية للتعاليم الأخلاقية الدينية في البوذية، معتمدان بشكل كبير على مبدأ (النشوء المعتمد على الغير) الذي يوضح أن كل موجود يتغير على نحو مستمر معتمدا على كل شيء آخر. ويتناول الفصل أيضا شرح للمبادئ الأساسية في البوذية وتحليل لطبيعة النفس.


أما الفصل الرابع فإنه يعرض وجهات النظر المختلفة للمدارس البوذية حول الواقع، طارحا وجهات نظر عدة مدارس وهي (الفيبهاشكا، السوترانتيكا، المدهياميكا، اليوجاكارا)، موضحا قبل ذلك أهم سمات النظرية البوذية فيما يتعلق بالعالم والنفس.

وتناول الفصل أيضا أهم الحجج التي استندت عليها بعض هذه المدارس في التأكيد على وجهة نظرها، كما تطرق لنظريات المعرفة التي توضح كيفية الوصول إلى فهم واضح للواقع متناولا أهم الأراء المتضاربة حول هذه المعرفة.


ويقدم لنا الفصل الخامس أحد النماذج العملية التي تطورت عن البوذية في الصين والتي تمتد جذورها التاريخية إلى الهند، فيما يعرف ببوذية زن التي يعود تراثها إلى بوذياراما المعلم الصيني الأول ، التي تتميز بطابع خاص إذ تعتمد على التجربة والتطلع المباشر في الطبيعة، وترى أن التعليم الحق لا ينتقل عبر النصوص وإنما مباشرة من خلال شخص قدير ، ضليع بها، والزن ما هي إلا طريقة حياة وليست مجموعة من التعاليم، لذلك فهي لا تتعلق بالمعتقدات وإنما بالفعل. ويتناول الفصل أهم أهداف زن وكيفية ممارستها وأهم المبادئ التي ينبغي أن يستند عليها المريد في تعلمه لزن.


ويتحدث الفصل السادس عن أهم خصائص الثقافة البوذية، موضحا فيه كيف لعبت التعاليم الدينية الفلسفية للبوذية دور في حياة الحضارات التي تعمقت فيها، فإذا كانت البوذية قد ابتدأت من النيبال موطن بوذا الأول إلا أنها لاقت إنتشار واسع في مختلف المناطق مثل سيرلانكا وتايلند وكمبوديا ولاوس والتبت والصين واليابان وفيتنام وغيرها وما ذلك إلا للخصائص التي اتسمت بها والتي لاقت رواج كبير وتقبل من قبل مختلف الشعوب، ومن بين الخصائص التي يتحدث عنها الفصل الكرامة الإنسانية والاتعلق بالماديات والتسامح تجاه كل الديانات.


ومن ثم ينتقل الكاتب في الجزء الثالث من الكتاب إلى الحديث عن الفلسفة الصينية التي ارتبطت بالسياسة بشكل كبير- ولعل الدوافع التي كانت وراء ظهور الفلسفات الصينية دور في تشكل تلك الرابطة - مقدما للقارئ في الفصل الأول من هذا الجزء أهم الخصائص الأساسية للفلسفات الصينية المتمثلة في مبادئ الكونفوشيوسية والتاويه والكونفوشيوسية الجديدة والتي لعبت دور مهم في تشكيل حياة الشعب الصيني، وأوضح اهم أهداف هذه الفلسفة التي ركزت على الإنسان بدرجة كبيرة، مؤكدة على أهمية المحافظة على الحياة الإنسانية العظيمة ورعايتها، مصنفةً عظمة الإنسان إلى نوعين عظمة داخلية وخارجية. كما عرض هذا الفصل أبرز أفكار كونفوشيوس الفلسفية.


وطرح الكاتب في الفصل الثاني أهم ملامح الفلسفة الصينية مسلطا الضوء على الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي عاشتها الصين قبل عصر كونفوشيوس، وتعاقب الأسر الحاكمة على الصين وكيف أثرت كل أسرة على طبيعة الفكر الصيني، إلى أن جاء عصر كونفوشيوس ومعه بدأت تتضح معالم الفكر الفلسفي الذي اهتم بالإنسان وبرقيه، ولكنه لم يكن الفكر الفلسفي الوحيد في الصين بعدها إذ ظهرت الفلسفة التاوية وأخيرا الكونفوشيوسية الجديدة.


ويتناول الكاتب في الفصل الثالث الفلسفة الكونفوشية بتعمق أكثر، موضحا في البداية طبيعة الفترة الزمنية التي عاش فيها كونفوشيوس، والدوافع التي كانت وراء تأملاته الفلسفية. ويقدم أفكار كونفوشيوس حول الإنسانية وماهيتها، وما هي قواعد السلوك التي تدعم الإنسانية.


ويتناول الفصل الرابع الفلسفة التاوية، موضحا المبادئ التي قامت عليها وأهم أفكارها الفلسفية، والدوافع أو لنقل الظروف التي مهدت وساهمت في تشكلها، أضف إلى ذلك تطرق الكاتب إلى ذكر اهم أوجه الاختلاف بين الفلسفة التاوية والكونفوشيوسية. وتحدث أيضا عن اهم التعاليم الأخلاقية والاجتماعية لهذه الفلسفة والمبادئ التسعة التي تتضمنها فيما يتعلق بالحياة الإنسانية.


ثم ينتقل الكاتب في الفصل الخامس إلى الحديث عن الكونفوشيوسية الجديدة، وأهم التحديات التي واجهتها ، وأهم الأفكار الفلسفية والتعاليم التي تضمنتها، كما تطرق إلى ذكر المؤسس الأول للكونفوشيوسية الجديدة ( شوتون آي)

وتلامذته الذين قاموا بتطويرها وتعديلها من بعده.


وأخيرا ينهي الكاتب هذا الجزء بالفصل السادس الذي يقدم فيه أهم ملامح الفكر الصيني الحديث، وكيف أن لحرب الأفيون والهزيمة التي لحقت بالصين آنذاك دفعت الصينيين إلى اتخاذ موقف حاسم بشأن طبيعة الفكر السائد في المجتمع الصيني، فكانت الأوضاع السيئة التي عايشتها الصيني مولد رئيسي للتساؤل الذي شغل الصينيين وهو ( مالذي يعيب تراثنا بحيث يسمح للقوى الأجنبية بإلحاق الهزيمة بنا؟ وحكمنا بهذه السهولة؟) ولأن الإجابة لم تكن واضحة تعددت الآراء في هذا الشأن، لهذا طرح الكاتب في هذا الفصل أهم خمسة مفكريين صينيين كان لهو أثر كبير في تغيير شكل ومسار التنمية في الصين في القرن 20.



عبارات مضيئة :


عبارات من الجزء الأول (الفلسفات الهندية)

- اليوجا مهمة لتحقيق الحكمة التي يتم من خلالها القضاء على الجهل، فمن خلالها تصبح الروح أكثر قدرة على الانفصال عن المادة التي تسبب المعاناة.

العنف هو تعبير عن الخوف ، والغضب ينشأ من الضعف ويحاول أن يعوض عن ذاته، فالعنف لا يؤدي إلا إلى المزيد من العنف ومن ثم يزيد من ضعف الفرد والمجتمع ، غير أن الحب يدعو إلى المزيد من الحب ويقوي كلا من الذات والآخرين.


عبارات من الجزء الثاني ( الفلسفات البوذية)


لا تخلو الحياة من المعاناة فهي بعيدة عن الكمال، ولكن قليلون هم أولئك الذين يبحثون عن أسباب هذه المعاناة التي تصادفهم ويحاولون القضاء على هذه الأسباب.


الحقائق النبيلة في البوذية هي : هناك معاناة في هذا العالم ، للمعاناة أسباب ، المعاناة يمكن التخلص منها من خلال التخلص من أسبابها ، السبيل إلى القضاء على المعاناة هو اتباع الطريق الوسط.


ملذات المرء التي تكون على حساب الآخرين لا تجلب المعاناة للآخر فقط وإنما للنفس أيضا.



عبارات من الجزء الثالث ( الفلسفات الصينية)


الحضارة والثقافة الصينية تقومان على أساس فلسفي تشكل من مبادئ الكونفوشيوسية والتاوية والكونفوشيوسية الجديدة، ومنها تشكلت حياة الشعب ومؤسساته.


الاختبار الحقيقي للفلسفة هو قدرتها على تحويل دعاتها إلى أشخاص عظام.


التأكيد على العظمة يؤدي إلى التأكيد على الأخلاق والحياة الروحية، فالروح وليس الجسم هي الجانب المهم في الوجود البشري.

 

 

من تعليمات كونفوشيوس : أنجز للناس ما كنت حريا بإنجازه لنفسك.

 

 

عناصر القوة والضعف:


إن الطرح المتعمق الذي قدمه جون كلر في كتابه حول الفكر الشرقي القديم ينم عن إطلاعه الواسع على هذا الفكر، ودراسته الواسعة في هذا المجال، فلم يكتفي بجوانب محددة في كل فلسفة وإنما اهتم بتناول مختلف المواضيع المتعلقة بالفلسفة بدءا من أهدافها وتعاليمها وصولا إلى أهم المذاهب الفلسفية المرتبطة بها.


الرأي الشخصي في الكتاب:


تعمق المؤلف في جذور كل فلسفة من الفلسفات التي قدمها في الكتاب، تعين القارئ على فهم اهم المشكلات التي تعالجها كل فلسفة، كما يمكن للقارئ بعدها أن يربط كل تلك الفلسفات ببعضها حتى يستطيع أن يخرج بأهم نقاط الالتقاء بين فلسفات الشرق المذكورة في هذا الكتاب، كما أن تقديم أهم أفكار الفلاسفة الذين برزوا في الشرق وتوضيح أهم تعاليهم ورسالاتهم الفلسفية تجعل القارئ قادرا على فهم العقلية الشرقية القديمة، وفهم نمط الحياة في تلك المجتمعات. والجميل في هذا الكتاب أنه استطاع ان يظهر رابط الصلة بين الفلسفة والواقع، وكيف يمكن للتعاليم الفلسفية أن تصبح ممارسة فعليا في حياة الشعوب.

ولكن الصعوبة التي واجهتها في هذا الكتاب تكمن في الترجمة التي جعلتني استغرق وقت طويل في قراءة بعض الفقرات لأستوعبها، واحتواءه على الكثير من المصطلحات الفلسفية القديمة،فعلى الرغم من وجود معاني لهذه المصطلحات في الهامش إلا أن عملية الرجوع للخلف ومن ثم العودة إلى النص مزعجة نوعا ما. 


الخلاصة:


إذا ما أردت الإبحار في رحلة إلى الفكر الشرقي المتعمق فعليك بهذا الكتاب، لأنه سيحاول إخبارك فيه عن أراء الفلاسفة الشرقيين فيما يتعلق بالحياة الاجتماعية، والحياة الدينية والروحية والسياسية أيضا، ومن خلال المسائل الفلسفية التي عنيت بها كل فلسفة تستطيع أيها القارئ أن تفهم أهم الأمور التي كانت تشغل الناس قديما، وكيف كانوا يحرصون على مواجهة مشكلات الحياة التي تتشابه دائما بإسقاط عنصري الزمان والمكان، فما من مجتمع إلا ويهدف إلى الرقي والنهضة وهذا ما كان يحاول الفلاسفة أن يقدموه لمجتمعاتهم. ويمكنك أن تجد فيها إجابات فلسفية حول الحياة الخيّرة وطبيعة النفس، وكيفية ضبطها لتصبح أكثر قدرةً على التحكم من شهواتها ورغباتها التي قد تسبب لها المعاناة!

ويمكنك أن تقرأ قبله كتاب " المعتقدات الدينية لدى الشعوب" لـجفري بارندر، ففيه توضيح واسع لأهم المعتقدات في الهندوسية والبوذية والصين، والتي يمكن أن تعينك في فهم مادة هذا الكتاب.


الجمعة، 27 يونيو 2014

(غريب الدار) ..


  



(1)

 الساعة الآن تقترب من التاسعة والنصف تقريبا، لا أملك ساعة لكي أعرف بها الوقت لكني قادر على تخمين ذلك من رؤية النجوم ومن هدوء القرية، التي يبتلعها سواد الليل فلا تجد فيها منزلا مضاءً في مثل هذا الوقت، إلا منزلنا!.

 تكورت على نفسي، محاولا الهروب بعيدا عن كل ما حولي، كنت في زاوية الغرفة يحتضنني الألم، ففي خارجها يقف والدي ملوحا بزجاجة الخمر التي في يده، كان يتمايل ذات اليمين وذات الشمال ، يهدد ويتوعد ، تارة يلقي بكلامه على والدتي التي تحاول التشاغل عنه بحياكة قميص صوفي، وكان الصوف في يدها باهت اللون، باعثا على الكآبة بلونه الرمادي، بدا وكأنه يشاطر أمي ما تتكبده من عناء، ويمتص معها كل اللعنات التي تخرج من فم أبي. 

وتارة أخرى تجده يلقي بلومه على كل شيء في هذا العالم الذي يدعي انه ظلمه ، وانه سبب في بؤسه وشقاءه!.
  لم يكن أبي رجلا سكيرا مهملا كما هو حاله الآن، لكنه فقد تجارته ذات يوم بسبب الكساد الذي ضرب السوق ، وبعد أن ابتلع الجفاف المزرعة الوحيدة التي نمتلكها. لم يكن يملك الشجاعة ليبدأ من جديد ؛ لهذا سلك هذا الطريق ظانا بأن هذا سينسيه كل الهموم التي تجثوا فوق رأسه. 

مضت خمس سنوات وهو على هذا الحال، وفي كل يوم يزداد طبعه سوءا ، ويزداد عنفه مع والدتي ، أما أنا فلم يكن يبدي أي اهتمام بي وكأنني لم أخلق من صلبه أبدا!.
 والدتي لا تزال صغيرة في السن، لم تتجاوز الثامنة والثلاثين ، غير أن الذي يراها يحسب أنها في الخمسين أو أكثر!.
حياتنا الصعبة أفقدتها الكثير. بدا الوهن واضحا في جسدها، وزادت حالتها سوءا بعد إصابتها بفقر دمٍ حاد.
 كنت يومها في الثامنة عشرة ، لم أكن ألقي بالا لحال أبي، ولا لما يتفوه به من كلمات ، فقد كان معتادا على ذلك ، وعلى تركنا لأيام ، لكن في ذلك اليوم بدت حالته أكثر سوءا  ، وأحسست حينها أن الليلة لن تمضي على خير.
 

  (2)

وبينما أنا مختبئ بجبن في زاوية غرفتي المظلمة سمعت صراخه الذي كان عاليا جدا، لدرجة أنني خفت على أمي ، ولولا خوفي من أن تزيدهُ رؤيتي قسوة لخرجت لأحميها منه.
سمعت صوت ارتطام زجاجة الخمر بالجدار وتكسرها لأشلاء. تلاه صوت الباب وهو يغلق بقوة.
 الأمر الذي يعني أن أبي قد خرج إلى حيث لا نعلم مجددا !. 

أسرعت خارجا من عتمتي لأطمئن عليها ، وجدتها تحتضن قطعة الصوف التي تحيكها وهي تبكي بصمت.  احتضنتها بقوة ، محاولا التخفيف عنها، يومها أدركت بأني شاب بائس وجبان ، وإلا لكنت قد أنقذت أمي من هذا الوضع ، وتمكنت من إيجاد مهنة تنقذنا من شرور أبي.

 هدئت أمي بين أحضاني ثم نامت تحت وطأة التعب.


 مسحت على شعرات رأسها الذي شاب. وقلت في نفسي كم من الهموم تحملين في جوف هذا الرأس يا أماه.
 وسدتها في فراشها ومضيت إلى غرفتي ابتلع الظلمة وتبتلعني.

صحوت فجرا وذهبت لأطمئن على أمي ، كانت ما تزال نائمة أو هكذا ظننت وقتها ، اقتربت منها لأوقظها ، ناديت عليها بهدوء لكن جسدها كان ممدا في الفراش بلا حراك ، بدت ملامح وجهها اكثر هدوءا من أي وقت مضى ،  أصابت رجفة مرعبة عظامي ،  اقتربت  لألمسها فإذا هي باردة كبرودة  فجر ذلك اليوم. حركتها بلطف ، غير أن الحقيقة كانت مصرة على أن تصفعني بقوة ،  لأدرك أن أمي غدت جثة هامدة بلا روح!

 صرخت بكل ما اعترى نفسي من مشاعر.. خوف وحزن وألم.. واتجهت مسرعا إلى الباب ، قاصدا المسجد الذي يقع في منتصف القرية.
 لم أأمل من احد المساعدة سوى إمام مسجدنا.. فلطالما عانيت وعانت أمي من أهالي هذه القرية الكثير ؛ لأننا اشدهم فقرا ولأننا كنا كالغرباء لا صلة تربطنا بهم سوى المكان الذي نسكن فيه ؛  فقد جاء والدي إلى هذه القرية منذ زمن ولم يختلطا كثيرا بأهلها ، وما زاد الأمر سوءا هو الحال الذي انقلب إليه والدي ، ومقت الناس له لأنه حاد عن ما تعارفوا عليه من قيم.

 وصلت  إلى المسجد وأنا ألهث ، وعيناي تسحان دموعهما الثقال ، كان في المسجد ثلة من الرجال الذين أتوا مبكرين.
 كل النظرات المصوبة نحوي كانت تنطق بالدهشة. اقترب مني إمام  المسجد وهو شيخ تجاوز الستين على ما أظن ، ربت على كتفي وقال لي بصوته الباعث على السكينة:
 -  اهدأ يا سالم وأخبرنا مالذي جرى لتبدو هكذا ؟.

  كانت عيناه المتفحصتان في حالي بدقة تعلمان أن ما جاء بي في تلك الساعة إلا أمر جلل ، نظرت إليه صامتا للحظات ، ثم نكست رأسي إلي الأرض متجرعا الحزن وأخبرته بوفاة والدتي.
جاءني صوته الهادئ بنبرة حزينة مرددا "إنا لله وإنا إليه راجعون" .

  التفت الإمام للرجال الموجودين بالمسجد ودعاهم للقدوم .  أخبرهم بالأمر فقدّم كل واحد منهم لأجلي كلمات العزاء . كنت في حالة ذهول عن كل ما حولي ، افكر في أمي الراحلة ، والوحدة القاتمة التي تنتظرني ، محاولا تصديق الواقع.. واقعي الذي بدا لي في تلك اللحظة ضبابيا قاتماً .


(3)


 تعاون سكان قريتي جميعا في إتمام العزاء. وكم كنت ممتنا لهم حقا.

 بقيت بعدها لأيام حبيس جدران منزلي الذي غادرته الروح هو الأخر . كان إمام المسجد يحاول التخفيف عني بعد كل صلاة ، داعيا إياي لأن انتشل نفسي من مستنقع الحزن الذي ركدت فيه بوهن . لم ألق بالا لكل ما قيل لي . كنت محبطا حقا ، محبط بحجم الفقد الذي منيت به.
  أما والدي فإني لم أراه أبداً بعد تلك الليلة ، ولعلي كنت سأرتكب جريمة بحقه إن رأيته، فما تذكرته إلا وارتفع مع ذكراه الأدرينالين في جسدي، مثيرا كل شحنات الشر والغضب العارم اتجاهه في داخلي . 

بعد أيام قررت الخروج. أدركت أن البقاء وحيدا ما هو إلا موت بطيء.
 خرجت إلى سوق القرية ألتمس عملا عند أحدهم، لكنني تلقيت طعنات جارحة من عيون أهل القرية ، صغارهم وكبارهم ، بل إن البعض لم يخجل من إسماعي كلمات الشفقة والرثاء على حالي ، وأبوا إلا أن يوصموني بعار أبي.
 كان ذنبه الذي تحملته مكرها.  لم أكن قادرا على التحمل اكثر ، جحيم العيش في قريتي لم يعد يطاق. ولم أجد من بينهم يدا رحيمة عدا الإمام وزوجته.

 لذا قررت ذات مساء مغادرة القرية ، فجمعت أغراضي على مهل. لا أخفيكم كم أنني كنت حزينا لفراق قريتي ، رغم قلة الذكريات الجميلة التي أحملها فيها. لكن لم يعد هناك مجال للتراجع.
انتظرت سكون القرية واستسلامها لحكم الليل.
 وعندما رأيت أن بيوتها قد راحت في سبات عميق خرجت حاملا حقيبة ظهري وحزمة صغيره بها زادي من الأكل والشرب. 
لم اكن واثقا من العودة إليها مجددا إلا أن شعورا راودني حينها بأني سأعود.  أغلفت باب المنزل بإحكام ومضيت في طريقي متجها إلى الشرق. 

  وقبل أن تبتلع المسافات قريتي، وتبعدها عن ناظري رقيت إلى إحدى الجبال، وقد كانت ليلة مقمرة، لذا تمكنت من رؤية ملامح قريتي الصغيرة المحاطة من كل جوانبها بالسلاسل الجبلية وهي في قلب هذه السلسلة.
بدت الجبال كأم رؤوم تحتضن طفلها الصغير بحنان، وإن كان هذا الاحتضان قد نأى بها عن العالم الخارجي ومجرياته. 
  أغمضت عيناي لأخزن صورتها في ذهني إلى الأبد ، حينها لاح لي شريط ذكرياتي بكل ما فيه، شريط جمع بين دفء الربيع وقسوة الشتاء. بين ظلمة الليل ونور النهار. لا انكر أني عشت طفولة سعيدة ، كنت طفلا يشع حيوية ، مستمتعا مع بقية الأطفال باكتشاف أسرار قريتنا ، مفتشين بين زواياها عن كل المتع البريئة. 

لكن شريط ذكرياتي ظهرت به التعرجات عندما أصابت النكبة أسرتي ، وانجراف والدي في درب خاطئ لا تقبله أعراف القرية وقيمها. من يومها ابتعد عنا أهالي القرية، بعضهم كان يقول بأن لعنة من السماء نزلت علينا لأن والدي لم يكن رجلا شريفا ، وهناك من اتهم والدتي وقال أنها هي مصدر النحس كعادة النساء ! ولا ادري لما؟
 تذكرت جفاء الأصدقاء وخذلانهم لي ، لم يكن أحدهم يجرؤ لان يصاحب ابن السكير!. أتراهم كانوا على صواب؟ هل كنت سأقاسمهم لعنتي التي التصقت بي دون أن يكون لي يد فيها؟!  
وتوقف بي الشريط عند ذكرى وفاة والدتي ، ونظرات الشفقة التي قوبلت بها من الجميع ، وإشعارهم إياي بأني ضعيف بائس كتب لي الشقاء!. 
 فتحت عيناي ببطء . دمعة حرى نزلت تلهب وجهي الذي انتفض كبركان يغلي من الحمم التي يخفيها في باطنه. 
مسحت دمعتي بظهر كفي، وحدقت في القرية بكل كره الدنيا ، وفي قلبي هاجس يقول لي لابد أن تنتقم منهم جميعا ذات يوم. 


(4)

 
 أكملت طريقي لا أعرف أين تأخذني قدماي ، كان مصيري معتما أمامي . وقد أسررت لنفسي بأني سأصنع  مستقبلي بيدي هذه المرة بعد أن عانيت من الماضي الذي تدخل في رسمه  والدي وسكان قريتي. 
قررت نسيان كل الأحداث السوداوية التي مررت بها ، وتمزيق كل صفحة لا تروق لي.  أريد أن أبقي على الربيع ، الربيع لا غير في حياتي.  كنت مدركا أن أياما صعبة بانتظاري لكنني عقدت صلحا مع ذاتي ووعدتها بأني سأحاول جاهدا  لأن أشكل لوحتي التي أريد. 

واصلت المسير أربعة أيام إلى أن وصلت إلى إحدى القرى ، بدت لي بمزارع النخيل بديعة المنظر ، استبشرت خيرا ودخلت إليها . كنت أمشي في طريق يشق المزارع. وكانت الشمس قد انتصبت في كبد السماء . والحر شديد ، وقد بلغ بي التعب مبلغا شديدا. 
 انعطفت يمينا متجها نحو إحدى المزارع التي كانت كحديقة غناء ، بها أشجار الليمون والزيتون والبرتقال وكروم العنب ، إلى جانب أشجار النخيل المثمرة ، وفي وتلك الحديقة البديعة رأيت جدول ماء يجري.  كان كل شيء كسراب أمامي ، أربعة أيام من المشي أرهقت كل عضلة في جسدي ، وسلبت مني كل الزاد الذي كان معي . لذا كانت هذه الحديقة حلم جميل ساقتني إليه الأقدار. 

شربت من ماء الجدول حتى ارتويت ، وأسندت ظهري إلى أقرب شجرة زيتون كانت بقرب الجدول .  أنزلت قبعتي المغبرة على وجهي ، ورحت في نوم عميق.

 استيقظت بعد فترة فزعا على صوت أحدهم ، لم ادري كم من الوقت مضى علي وأنا نائم لكن  يبدو أني استغرقت وقتا طويلا ، لأن الشمس قد قاربت على المغيب.  
حدقت بفزع في الرجل الذي كان يناديني ، كان يبعد عني مسافة ليست بالطويلة لكنه لم يكن قريبا ، لعل رؤيتي في مزرعته أثارت توجسه. 
كانت هيئته تبعث على الهيبة والاحترام بدى حسب توقعاتي في منتصف الأربعين أو أكثر بقليل. وكم كنت خائفا حينها من أن أقع في مشكلة جديدة ، أو أن يظن بي شرا، لم يكن ينقصني سوى أن أتورط مع هذا الرجل.
 انتشلني من مخاوفي صوته الهادئ وهو يقترب ليمد لي يده للسلام
 - السلام عليك أيها الفتى. 
- وعليكم السلام يا عم. 
- لقد كنت نائما بعمق، ولم أشأ أن أوقظك. لكن  الليل  سيهبط علينا ، والمكوث في المزرعة سيغدو خطرا ؛ لهذا قررت إيقاظك قبل أن أغادر المزرعة.  

 أخجلني الرجل الذي بدا واضحا أنه مالك المزرعة بتصرفه. أطرقت وشكرته بامتنان.

 - يبدو لي أنك غريب عن هذه الديار، ومظهرك يدل على أنك قادم من مكان بعيد. 

قلت أخاطب نفسي "نعم إني غريب الدار. غريب عن كل ما حولي" ثم انتبهت لنظرات محدثي وقلت:
  -  نعم إني قادم من قرية الجبل. 
هتف الرجل متعجبا: 
 - قرية الجبل!! هل قطعت كل هذه المسافة مشيا؟! تفحصني بنظراته الدهِشة وقال مستطردا : أيها الغريب قلي ما اسمك؟ 
 - اسمي سالم يا عم. 
- وأنا ربيع . تشرفت بمعرفتك يا سالم. 
 - شكرا لك يا عم ربيع ، شرف لي أن أصادف مثلك. 
 - تعال يا سالم إلى منزلي ، ستقضي الليلة معي ، فأنت ضيفنا اليوم.   

كان منزله فخما ، بدا لي وأنا القادم من عمق قرية جبلية نائية كقصر كبير. 
عرفت منه بأنه يعمل في التجارة ، كان يسكن مع زوجته وابنته التي تصغرني بخمس سنوات.  تحدثنا بعد العشاء مطولا عن حالي ، أخبرته بأني لم اخطط  بعد لوجهة معينة. كل ما كنت ارجوه هو أن احصل على عمل أرتزق منه. 

قال لي باسما: 
 - لقد ساقتك إليّ الرحمة الإلهية ، فأنا منذ مدة ابحث عن شاب يعمل في مزرعتي ، وتجارتي تعيقني بعض الشيء عن الاهتمام بها. 

سعدت جدا ، وأدركت أن أيام الشقاء ستزول عما قريب. 
 وافقت على طلبه دون تردد ، اتفقنا على كل شيء ، وتقرر أن أسكن منذ الغد في الملحق الصغير الموجود في بداية المزرعة. وهو قريب جدا من منزل التجار. 

(5)
  

ومنذ أن استلمت عملي الجديد وأنا أشعر أن روحا جديدة تلبستني، غدت المزرعة معشوقتي التي أخاف أن يصيبها أي مكروه. عنيت بها بأفضل ما يكون. الأمر الذي انعكس إيجابا بفضل الله على إنتاجيتها.


 كما أني أحببت أهالي القرية التي كانت تسمى بقرية المروج.  و بعد مرور سنتين على عملي، اشتريت جزئا من المزرعة، وبدأت أتاجر بمحصولها. 
كنت والتاجر ربيع شركاء رائعين ، واستفدنا سويا من هذه   الشراكة ، لكن أجمل ما تعلمته منه هو القيم النبيلة التي ينبغي أن لا يفتقر إليها أي تاجر. 
 ابتسامته الصافية التي يقابل بها الجميع كانت احد أسرار شخصيته الرائعة، لقد كان محبوبا من الجميع. كما انه كان أمينا ، لدرجة أن بعض التجار من القرى المجاورة يستودعونه بضائعهم ليبيعها على أهل قرية المروج وزوارها ، الذين كانوا يأتون إليها كل صيف ، للتمتع بجوها وما تمتلكه من مناظر خلابه.
 باختصار كان هو مثلي الذي اهتدي بتوجيهاته، وأنا المبتدئ في عالم التجارة. 


وذات يوم وبينما أنا جالس تحت إحدى أشجار التفاح في مزرعتي ، أفكر في حالي كيف أتيت إلى هنا منذ اكثر من 6 سنوات ، فتى في الثامنة عشرة حائر لا يعلم أين ستؤدي به دروب الحياة في هذا العالم الواسع ، وكيف صرت الآن.. إذا بصوت رقيق يصل إلى مسمعي.

- السلام عليكم ورحمة الله
 التفت إلى الخلف ، فإذا هي سمر ابنة التاجر ربيع ، تلك الصبية التي لم تتجاوز 13 عندما أتيت، أصبحت شابة ناضجة اليوم.

لم اعرفها في الوهلة الأولى إلا بعد أن قالت لي والحياء قد زين وجنتيها بالاحمرار ، مطرقة نحو الأرض :
 - إن أبي يدعوك إلى المنزل فقد اشتد عليه المرض. ثم ذهبت مسرعة عائدة إلى المنزل. 

بقيت واجما للحظات ، لأستوعب ما قالته ، ثم قمت من مكاني مسرعا وأنا أتسائل مالذي جرى ، فبالأمس كنا معا وكان على أتم صحته!.  
عندما دخلت وجدت زوجته تخفف عنه الحمى بمناديل الماء الباردة.  رحبت بقدومي وخرجت هي عندما أشار لها فتركتنا بمفردنا.  

سألته عن صحته، فنظر لي باسما يقاوم ما يلم به. 

- لا تقلق هذه ألام مرض القلب الذي أعاني منه منذ سنوات.  
غير أني استدعيتك لأمر آخر، إني أود أن أزوجك ابنتي يا سالم وقد تعمدت إرسالها إليك ،  اتفقنا أنا وزوجتي أن نفاتحك بهذا اليوم ،  فإني لن أجد لها زوجا أفضل منك يا سالم. إلا أن الأمر يعود لك في نهاية الأمر . فانظر ماذا ترى.  

فاجأني هذا الطلب فأجبته بعد هنيهة: 

- إن ذلك شرف لي،  شرفي لي يا عم ربيع بأن أرتبط بكريمتكم ، ولكن لتمهني إلى الغد حتى أرد عليك بقراري النهائي.   

 - لك ذلك يا سالم ، فكر في الأمر مليا ، وخذ ما يناسبك من الوقت.  

 في  ذلك اليوم فكرت كثيرا ، لقد  عشت في هذه القرية بضع سنوات وها هو التاجر ربيع يعرض علي الزواج من ابنته ، لم يسألني عن ماضي ، لم يحاسبني على خطأ أبي الذي ما فتأت  أفكر فيه طوال هذه السنين.

 أعادني هذا إلى قريتي مرة أخرى، إذ لم تفلح كل هذه السنوات في محو تلك الذكريات المؤلمة من ذاكرتي!.  

 وافقت على الزواج من سمر ، وقد كانت بالفعل نعم الزوجة ، أخذت من والدها سماته الحسنة التي أحب.  
 بعد مرور سنتين على زواجي ، وبعد أن رزقنا بطفلنا الأول "سعيد" قررت العودة إلى  قريتي ، كنت دائما أشعر بأني غريب الدار فعلا في قرية المروج ، فرغم علاقتي الوطيدة بسكانها كنت أحن لقريتي التي  طردني منها أهلها بجفاء بطريقتهم غير المباشرة ، أحن لروح أمي التي عاشت هناك ، وبقي في قلبي شوق كبير لمرتع الطفولة والصبا. 

 لم يكن القرار سهلا ، لقد كانت مسألة العودة تؤرقني منذ مدة ، كيف سيستقبلني الناس بعد كل هذه السنين ، أتراهم يتجاهلوني كما تجاهلوا والدي من قبل؟ ، ووالدي ماذا عنه؟ أتراه حي إلى اليوم؟ لقد اشغلني أمره كثيرا ، رغم ما حدث في الماضي إلا أنني أتمنى أن أراه ثانية بخير ، وأتمنى أن أتمكن من جعله يعيش حياة كريمة مرة أخرى. 


(6)

 ودعت أهالي قرية المروج وانطلقت مع عائلتي عائداً إلى قريتي ، لقد حرصت على إخبار سمر بذكرياتي الرائعة فيها ، أردتها أن تحب قريتي الجبلية الصغيرة المختبئة في أحضان الجبال ، لم أشأ أن ارسم صورة سيئة عنها ، فقد وعدت نفسي منذ أن خرجت بأن لا أبقي على الصفحات القاتمة في دفتر حياتي.

لم نستغرق في سفرنا الكثير من الوقت ، فبعد كل هذه السنوات تطور العالم وتحسنت الأوضاع المعيشية للكثير من الناس ، وأصبحت أمتلك سيارتي الخاصة التي سهلت لي الكثير من الأمور، منها رحلة عودتي

عندما وصلنا إلى مشارف القرية لم  اشعر إلا والدمعة تشق خدي ، لا أعلم سبب سقوطها من مدمعي ، كل المشاعر كانت ممتزجة في داخلي في تلك اللحظة.
أحسست بيد سمر الدافئة وهي تمسحها ، نظرت إليها فوجدتها تبتسم ، كنت سعيدا لأنها بقربي ، ما كنت أود دخول القرية وحيدا أعزلا كما خرجت . أمسكت بيدها ، وهمست لها :
- ستحبين قريتي يا سمر تلك الدمعة ما نزلت إلا لأني عشقت ذرات هذا المكان ، وسأكون سعيدا إن شاطرتني هذه المحبة. 
 بصوتها الحاني أجابت: 
 - لم اعش في قريتك يا عزيزي لكن حبك لها ، وحديثك الدائم عنها جعلني أحبها قبل أن أراها. هنا سنتشارك حلو الحياة ومرها يا سالم. 

 ابتسمت لها ومضينا في طريقنا  إلى داخل القرية. 
 لقد لعبت الأيام قليلا بقريتي ، لم تخفَ عني بعض مظاهر التحضر البسيطة التي بدت في البيوت الحديثة ووجود السيارات التي كانت تعد بأصابع اليد على طرقاتها.  

وصلت إلى منزلي الذي بقي صامدا كما هو ، لكنه كان باهتا ،  فجعه غياب ساكنيه. تساءلت إن كان والدي قد جاء إلى هنا بعد رحيلي أم لا.

  كانت الشمس قد قاربت على المغيب عندما وصلنا، تجمع بعض الأطفال  حولنا، وحدق بعض الرجال الماضون  في طريقهم إلى المسجد نحونا طويلا. لعلهم كانوا يتساءلون عن هويتنا كغرباء ، كلا لست غريبا وأنا هنا في داري، طعم الغربة موجع ، ولن أتجرعه مرارته مجددا، سأبني حياتي هنا كما أريد ، هانئة وسعيدة، وسأبذل ما بوسعي لأن أطور  قريتي، فقد جمعت ثروة لا بأس بها، والأهم من المال لقد جمعت ثروة  من القيم أكسبتني إياها الأيام، ومبادئ استند عليها في حياتي. 

عندما لا  مست يد الباب المغبرة ، صافحتني يد أمي في الخفاء ، وكأنها ترحب بي ، لن يبقى المكان الذي عاشت فيه مهجورا بعد اليوم ، أريد أن أحيي كل بقعة جلست عليها. 

 تعاونت وزوجتي وابني الصغير سعيد في نقل الأمتعة. كان المنزل قديما جدا ، لقد شاخ كثيرا هو الآخر.

خرجت من المنزل بعد سماعي لصوت الأذان. كنت أهيء نفسي لتلقي ردة فعل الأهالي، ماذا عساهم يقولون! 
على أية حال كل ما  كنت أريد معرفته هو السؤال عن أبي.

قبل أن أدخل حرم المسجد شاهدت شيخا كبيرا يتكأ على عصاه ، حدق كل منا في الآخر ، اتسعت حدقتا عيني وبدت مني صرخة دهشة ، لم يكن سوى إمام المسجد هتفت محييا : 
 - الشيخ رجب؟!!  

رفع الإمام حاجبيه اللذان كانا يغطيان عينيه الغائرتان ، ليتفحصني مليا ، ويوقظ  ذاكرته لعله يعرفني ثم قال متسائلا : 

- أإنك أنت سالم؟   

احتضنته بكل الشوق المكنون له في قلبي وأنا أبكي من الفرح شاكرا الله أن أبقاه حيا لهذا اليوم

 - نعم أنا سالم  يا معلمي ، سالم يا شيخي الجليل جئت بعد طول غياب.  

 ربت بيديه على  ظهري ودنت منه تنهيدة باكية : 

 - أين كنت يا بني ، أين تركتنا كل هذه المدة؟. 

تحدثنا قليلا قبل دخول وقت الصلاة ثم دخلنا معا إلى المسجد.  
البعض عرفني فجاء مسرعا ليسلم علي، والبعض الآخر تغير فلم اعرفه ولم يعرفني، أصدقاء الطفولة رأيتهم هناك أيضا. 

 بعد انتهاء الصلاة تجمع الكل حولي، ليسمعوا مني ما جرى وأين كنت طوال تلك السنين. 

وقبل أن أغادر انفردت بالشيخ رجب وسألته عن والدي.

نكس رأسه وقال:

- ذات يوم جاءني والدك وقد كان يبدو متعبا للغاية ، سألني عنك وعن والدتك ، أخبرته بوفاة والدتك أما خبرك كان مجهول عندي أنا أيضا، فقد غادرتنا دون وداع.
بكى والدك حينها كثيرا يا سالم ، لقد بكى ندما على كل شيء. أخذت بيده وعقدت العزم على أن أبصره بطريق النور مرة أخرى . وبفضل هداية الله ترك والدك شرب الخمور وداوم على حضوره إلى المسجد ، كان يبدو لي دائما باكي العينين واهن الجسد ، تمنيتك هنا لتخفف عنه ، لم يعش طويلا يا سالم ، فقد فاضت روحه ذات يوم وهو خارج من المسجد.

- وهل غير هذا من نظرة الناس له؟

هز رأسه نفيا وأجاب بصوت واهن:

- من المؤسف أن أقول لك عكس ذلك ، فقد كان أهالي القرية في جهلهم يعمهون ، لم تفلح محاولاتي في تصحيح حال والدك الذي آل إليه بعد عودته ، الكل راح يردد فكرة أن بذرة الشر مزروعة فيه . لا تزال فئة كبيرة من سكان القرية يؤمنون بالخرافات وأن اللعنة التي نزلت على والدك وقد تصيبهم إن خالطوه! 

بكيت يومها كثيرا ، أسفا على موت والدي ، وعلى جفاء أهل القرية نحوه ،  لكن خبر عودته وصلاحه خفف من حزني ودعوت الله له بالمغفرة والرحمة.


 استقرت أوضاع أسرتي الصغيرة في القرية ، فتحت تجارتي فيها ، وتشاركت مع أحد الأصدقاء في بناء مدرسة للأطفال .  

لم يعد هناك من يلقبني بابن السكير ، واختفت نظرات الازدراء والشفقة ،  يبدو أن وضعي المادي أسهم بشكل كبير في مسح تلك الصورة ، نسوا  بأني من صلب ذلك الرجل الملعون كما يدعون! يا ترى أتراهم كانوا سيعاملونني هكذا إن رجعت إليهم بوضع بائس؟!

  هذا ما كنت أفكر فيه وأنا أتأمل النجوم بالقرب من الشجرة القريبة من منزلي.

جاء إلي ابني سعيد يدعوني للعشاء أخذته بين أحضاني وهمست له بود : 

 - بني إني أرجوا أن تعيش سعيدا دائما ، واجه الحياة بجلد وعزم ،  ولا تعبأ بما يريده الناس منك وإلا صرت غريبا عن نفسك ، كن سعيدا في كل حال ، قد يرى الناس السعادة مقصورة لمن جمع المال وبنى بها القصور فيبالغون في إظهار الاحترام له ، وإن كان فقيرا لن يتوانوا عن إلصاق العيوب فيه ، دعك منهم يا بني فالسعادة تكمن هنا.. 

 أمسكت بيده الصغيرة ووضعتها على الجانب الأيسر من صدره. 
 ابتسم سعيد ابن التاسعة ولعله لم يفهم  ما قلت.

لقد قطعت عهدا على نفسي بأن أحرص ما استطعت أن اكون فرحا يذكرني به أبنائي غدا  بعد رحيلي ،  فحياتي القاسية التي عشتها في الماضي علمتني الكثير.  

 أمسكت يده الصغيرة ودخلنا سويا إلى المنزل. 


 تمت.