الأربعاء، 12 مارس 2014

بين فكي الرحى




خرجت سارة من المنزل بعد أن التفتت يمنة ويسرة لتتأكد من خلو الطريق. وراحت تجري لتمسك أخاها الصغير ابن السنتين الذي زاد من سرعته وهو يرى أخته تجري خلفه. وصدى ضحكته الطفولية يتردد في أرجاء المكان.
  أمسكته سارة بتحنان كبير ورفعته إليها ضاحكة:


- لقد امسكتك أيها العصفور الصغير.  ضمته اليها مستمتعة بضحكاته العذبة.
   سارة فتاة في الثامنة عشرة. ذات جمال أخاذ. ممشوقة القوام. وأجمل ما فيها تلك اللمحة البرئية التي تغشى ملامح وجهها، يصعب على المرء أن لا يشعر بالراحة وهو يراها.ولعل النقاء الذي تجذر في داخلها، و الصفاء الريفي الذي تشربته منذ طفولتها أكسبها ذلك السمت الذي تأنس له النفس ولا تخطئه العين أبدا.  

لم تلحظ سارة تلك النظرات التي كانت تراقبها منذ أن خرجت.  كانت لا ترى سوى صغيرها الذي تخشى عليه من كل شيء.  إذ كان عادل في زيارة لصديقه الذي يسكن بجوار منزل سارة؛ قد دخل سيارته قبيل خروج سارة من منزلها، ولم يستطع منع  نفسه عن مراقبتها.  كانت نافذة سيارته مفتوحة بالقدر الذي سمح له بسماع ضحكتها المنتصرة وهي تمسك بأخيها، وسماعها وهي تعاتبه بلطف على خروجه من المنزل.وعندما ابتلع البيت سارة وأخيها الصغير أرجع ظهره للخلف وقد تنبه لشروده فأسرع يدير محرك السيارة ليغادر.

و عادل شاب أعزب في الخامسة والعشرين من عمره. فارع الطول.. قوي البنية. يعمل محاسبا في إحدى شركات العاصمة    طوال الطريق لم يجد عادل تفسيرا لاهتمامه باسترجاع صورة سارة.  الشابه القروية، التي سلبت منه تفكيره دون أن تدري.

  وعلى مدار يومين لم تبرح صورة تلك الفتاة مخيلته.لذا وبعد بعد نقاش طويل مع نفسه قرر مصارحة صديقة، ليقص عليه قصة جارته الحسناء.
وما إن أخبر صديقه سعيد حتى ضحك الأخير ممازحاً:

 - هههههه يا رجل أبهذه السرعة أحببتها ؟اطرق عادل  قليلا :  - وما المضحك في ذلك يا سعيد؟  جئت إليك ممنيا نفسي بأنك ستساعدني في التقدم إليها.  اعتدل سعيد في جلسته وقال بنبرة جادة : 

- لا عليك يا صديقي، سأخبر  أمي وهي ستسهل علينا المهمة. 

  وبالفعل أخبرت ام سعيد والدة سارة بالأمر. وبعد أيام ذهب عادل مع والديه وصديقه سعيد إلي منزل سارة.

  كان والدها رجلا في الخمسين من عمره. سمات الوقار والهدوء مرسومة على محياها.وقد  استقبلهم بكرم بالغ.بعد تلك الزيارة خرج عادل وهو يشعر بالسعادة كان لديه إحساس بأن الرد الذي سينتظره سيكون بالإيجاب.  

راحت والدته بدورها تمتدح سارة وتدعي الإله أن تكون من نصيب إبنها.في حين أن سارة لم تكن تعلم بالسر من وراء تلك الزيارة. فوالديها قررا السؤال عن الشاب قبل إخبارها. وبعد إسبوع اجتمع الوالدين بإبنتهما وفاتحها والدها بالموضوع. كانت مطرقة طوال فترة حديثه وقد تملكها الخجل.

نظر الأب لزوجته مبتسما، وقال وهو يغادر:

- سأنتظر ردك يا بنتي لكي أرد عليهم. 

بعد يومين اخبرت سارة والدتها بموافقتها.
زغردت الوالدة فرحا.. وأخبرت زوجها الذي كان مسرورا بدوره.  إلا أن هناك كان ما يشغل باله. إذ أن والده مسافر للعلاج وكان يتمنى أن يكون هنا ليسمع رأيه في الأمرأراد انتظار عودته لكن زوجته قالت له :

- لأي سبب سيرفض الجد هذه الزيجة ؟إن الشاب لا يعيبه شيء. وقد تأكدت أنت من حسن خلقه ونسبه؛ لا داع لتأخير الرد يا عزيزي.  قرر العمل بقولها خصوصا بعد أن علم أن والده سوف يتأخر في العودة اكثر.

كاد عادل يطير من الفرح وهو يستقبل الرد بالموافقة. هاهي ذي سارة ستصبح  عما قريب زوجة له.

كان عادل يتردد على بيت سارة كثيرا؛ فكل شيء هناك كان يسحره. وسارة الشابة الصغيرة  استطاعت فعلا  أن تملك قلبه بكل ما فيها.وهي أيضا بادلته المشاعر نفسها، كانت تحب سماع قصة تعرفه عليها. وهو لم يكن يمل يوما من إعادتها على مسامعها مرارا وتكرارا.


بدا الإثنان ملائمان لبعضهما كثيرا. كما أن الانسجام كان واضحا في علاقتهما. كان كل واحد منهما يعد الآخر كنز نفيس اهداه الله إليه. كيف لا وحياتهما  تلونت بلون آخر لم يعهداه من قبل.  

تقرر ان يكون العرس بعد عودة جد سارة. وتماثله للشفاء. فهو كبير العائلة ولم يجازف والد سارة بالموافقة على تقديمه.
يكفي أنه عقد قران إبنته بدون وجوده.فالجد في تلك القرية لا يزال له السلطة في كل شيء. هو الآمر الناهي. وما على البقية سوى الطاعة.  

احترم عادل تلك الرغبة  وقدر عاداتهم الخاصة.
عاد الجد بعد مرور اسبوعين على عقد قران سارة.  وكم كانت صدمته قوية عندما تلقى الخبر.  كان الجد صارما لدرجة كبيرة. وتقاسيم وجهه الحادة تجعل محدثه حذرا من محاولة تعكير مزاجه.عندما اخبره ابنه عبدالله -والد سارة - بالأمر صرخ في وجهه غاضبا:

- أكان صعبا عليك انتظار قدومي؟  أم تراك ما عدت تحترم رأيي؟.
رد عليه إبنه المطرق احتراما لوالده:

- ليس ذلك يا ابي. لكن لم يكن من اللائق تأخير ردنا عليهم. ثم إن الشاب وعائلته لا يعيبهم شيء.  

كان الجد يعرف إبنه جيدا، فهو لن يتسرع في أمر حساس كهذا. لكنه في الوقت ذاته كان مصرا بأنه اقترف إثما كبيرا بعدم سماعه لرأيه. لذا أكمل صراخه الذي بدا به وكأنه أسد ثائر:  

 -اتركني الآن لأرتاح. لا اود سماع اي شيء عن هذا.  

خرج عبدالله وقد بدا الحزن جليا في محياه. كان يتوقع حدوث هذا. لكن الوقت تأخر ولم يملك حينها سوى الدعاء بأن يهدأ والده.

كان كل ما يفكر فيه هو ابنته سارة. لم يشأ اخبارها بموقف الجد. فذلك كفيل بتعكير سعادتها التي يراها تشع من عينيها، وهل يطيق رؤية ذلك الوجه  الباسم مسلوبا من ابتسامته؟ 

 لكن الجد  استمر في عناده وتمسكه بموقفه. حتى أنه رفض فكرة رؤية عادل. فلا شيء يدعوه لذلك طالما أنهم لم ينتظروا عودته وسماع رأيه.
لم تكن قضية صعبة.  ولكن في عائلة كعائلة سارة لم يسبق لأحد أن قضى أمرا بدون علم الجد.  فطالما أنه على قيد الحياة كل الأمور تعود إليه، كالملك تماما!.

وعلى مدار ثلاثة ايام ظل الجد رافضا الحديث مع عبدالله . الذي كان يعود إلى منزله في كل  مرة كسير الخاطر.  

فوالده عد عقد قرآن حفيدته جرم كبير لن يسامحه عليه.لم يغب الأمر عن سارة طويلا. فقد لاحظت علامات التعب النفسي على وجه والدها. إضافة إلى  انها التقطت جزءا من حوار والديها ذات مره وهي ذاهبة إلى غرفتها

 أقلقها سوء الفهم الواقع بين والدها وجدها في بادئ الأمر. لكنها سرعان ما نسته.

كانت ترى أن على جدها أن يدرك أن الزمن قد تغير، وقد استبدل الناس نمطا جديدا لحياتهم. لكنها تأخذ في الحسبان أن ذلك أمر يكاد يكون مستحيل بدرجة كبيرة على رجل مسن كجدها ، وعلى أغلب سكان قريتها؛ إذ ضلوا متمسكين بعاداتهم  وتقاليدهم كونهم في قرية نائية . 

عندما  علم عادل بعودة الجد، قرر الذهاب مع والده لزيارته. ولم يكن يعلم ما يخبئ له القدر في تلك الزيارة.

كان الجد محاطا بأبنائه السبعه عندما طرق عادل الباب.  شعر والد سارة بالارتباك، لم يكن مستعد لهذا اللقاء. كان خائفا من موقف والده.  بدا الكل يصطنع الابتسامة في وجه الزائرين. غير المرحب بهما عند الجد. وعندما لمح الجد عادل علم بحدسه من يكون. لذا أعطاهم ظهره وتظاهر بالنوم

 حاول الأبناء جعل الأمر يبدو طبيعيا. شيخ مسن عاد من رحلة علاج طويلة فلا يجب ايقاظه من نومه لأي سبب كان.  

تفهم عادل ووالده ذلك غير أن الجو المكهرب، الذي مُلئ بالابتسامات المجاملة  لم يطمئن عادل.  فكر في أن صحة الجد أسوء من ما يبدو ولهذا تصنع ابناءه الابتسام امامه.

قبل ان يغادر انفرد عادل بوالد سارة وأخبره أنه يريد تعجيل موعد العرس. و طالما أن الجد عاد فلم يعد هناك يدعو للتأخير أكثر.
  بدا التوتر واضحا على والد سارة عندما سمع  برغبة صهره لكنه تمالك نفسه وأجابه بكل هدوء:

- سنرى ذلك يا عادل. وسأحاول الرد عليك في اقرب فرصة

 كان ذلك الرد غريبا بالنسبة لعادل. وما أكثر الأشياء التي أثارت استغرابه من عادات عائلة سارة.  فهو ابن المدينة و لم يكن يعلم بوجود من يتمسك بمثل تلك العادات و التقاليد

 التي اعتقد انها لم تعد حية في زمن غزا الانفتاح فيه أغلب المجتمعات!فبالنسبة لمجتمع عادل يكفي أن يتفق الزوجان على موعد العرس، ولا شأن لأحد آخر بذلك.لكنه  في آخر الأمر قرر الانتظار احتراما لرغبتهم.


وقد أخبر سارة ذات يوم صراحةً بتعجبه من بعض العادات التي يتمسكون بها. كانت هي اكثر انفتاحا. لم يكن تفكيرها ضيق الأفق. تعلم أن هناك امور بالإمكان تجاوزها، فالحياة لم تعد كالسابق. لكنها في الوقت ذاته تدرك أهمية كل تلك الأمور بالنسبة لعائلتها. بل لأغلب أهل القرية.وقد مازحته عندما رأت رغبته الملحة في التعجيل بالعرس:

- هون عليك يا عادل سأكون هنا دائما ولن أطير بعيدا.  سواء كان موعد عرسنا اليوم ام بعد شهر.  تنهد هو بدور:

- لست أدري يا سارة قلبي ليس مطمئن. لكن من يدري عل هذا التأخير لصالحنا .


 قاطع الجد ابنه عبدالله  لأيام وعندما ذهب الأخير لإخباره برغبة عادل في تقديم موعد العرس نضر إليه شزرا وقال:

-  لا يهمني هذا. افعل ما يحلو لك.


انزعج والد سارة من موقف أبيه وقرر الموافقة على رغبة عادل. راجيا أن  تقف الأمور عند هذا  الحد. داعيا في الوقت ذاته بأن يعود والده إلى رشده. فالمسألة لا تستحق كل هذا الجفاء!.وفعلا تم العرس كان الجميع سعداء. باستثناء والدي سارة ، كلاهمها محزون من موقف الجد الذي لم  يحضر وظل على  عناده القديم.  

أسفت سارة لذلك لكنها لم تطل التفكير في الأمر. وقد  عذرت جدها لصحته.

  لكن الأمور لم تكن بتلك السهولة.  فبعد مرور شهر على زواجها. وبعد محاولات شتى لإعادة الأمور إلى ناصبها  الصحيح  بين الأب والجد، وفي  مجلس جمع جميع  الأبناء.   قال والد سارة لأبيه :

- لم كل هذه القطيعة يا  أبي؟ اعترفت بخطأي منذ  زمن. ألم يأن  الوقت لننسى ما حدث؟.  يا أبتي إن ذلك..
صرخ الجد مقاطعا:

-   ننسى ماذا؟  أأنسى   بأنك ضربت بكلمتي عرض الحائط؟.  اليوم أنت .. ثم وزع نظراته  الحانقة على أبناءه واحدا واحد .. وأردف.. وغدا قد يحذوا الجميع حذوك!.إيه على تلك الأيام التي انقضت. كيف تسمح لنفسك أن تقلل من شأن والدك هكذا؟! .. ماذا سيقول الناس عني غدا عندما أصبح أقصوصة القبيلة كلها.  أي وجه لي أمام الشيوخ بعد هذااييه بكل سهوولة تريدني أن انسى! رحم الله زمانا لم نكن نجرؤ فيه على مخالفة أبائنا.  تكلم  الإبن الأكبر: 

- يا والدي العزيز أنت تعلم أن مكانتك بيننا لن تتغير. تظل فوق رؤوسنا مرفوعا مكرما.  لكن يا أبتي اغفر لأخي زلته. فلكل جواد كبوة.
 أشاح الجد بنظره بعيدا عنهم وقال :

- حتى انه لم يسألني عن رأيي في زوج ابنته؟!!  وإن كان يهمك فلتعلم بأني لم ارتح لذلك الشاب. قادم من المدينة لا نعلم عنه شيء!  وإني لأعلم منك  بأحوال أهل المدن لكنك إبن...قبل أن يكمل الجد  اقترب منه عبدالله وأمسك بيديه وقال :

- لا  تكمل يا أبي.. إني استحق كل ما تريد قوله..  لكن مهلك فأنت لم تتعرف عليه بعد. سيعجبك حقا  إن  عرفته. فهو شاب ناضج واع..
استل الجد يديه وقال معاندا:

- لا أحتاج لأن اسمع منه. يكفي أني رأيته.  ثم إنه ليس أفضل من شباب القبيلة.أطرق الجميع.. ولم يقطع ذلك الصمت المخيم إلا صوت  الجد وهو يقول: 

 - تقول لي أنسى؟! لن أنسى إلا إذا فكت العقدة.حدق الجميع في وجوه بعضهم.
- ماذا تقصد يا أبتي؟اسند الجد ظهره  في جدار الغرفة وقال :

- اطلب منه أن يطلقها.

زاغت عيون  الجميع.  بينما تقطعت كل الكلمات في حنجرة  عبدالله- لا يمكن ان تكون جادا يا أبي. ليس لي الحق...صرخ الجد مجددأ :

- بل لك  كل الحق يا هذا .. أم ليس لك الحق إلا في عقوقي؟!

  بدا الانزعاج في وجه عبدالله  وقال :

- اني حقا لا استطيع. كيف اهدم سعادتهما يا ابي؟ إن ذلك ما لا اطيقه !.انزعج الجد وقال :

- ذلك شأنك إذا.. غب  عني فما عدت أريد رؤية وجهك بعد اليوم.  أنت ابن عاق.. نعم أغرب عن وجهي.

خيم الوجوم في وجووه الجميع. حاول بقية الابناء تهدئة الوضع لكن الجد كان مصرا.

امتلئت عيني عبدالله بالدموع، يعز عليه أن يرى والده  هكذا. حدق في عيني والده فرآهما ايضا تلمعان بماء  الدمع.  فطالما كان ابنه رجلا  بارا وهو يعلم ذلك. غير ان حمية الأقدمين تسري في كيانه. فلا يرى أمامه إلا ما رآه اباءه وأجداده من قبل.
إنه لمن الكبائر أن يعامل ابن  والده بهذا الإجحاف. هكذا كان يفكر الجد البائس.

خرج عبدالله  ولحقه أخاه الأكبر وتتابع الإخوة في الخروج بعد ان انفض مجلسهم بأسوأ ما يكون.قال له أخاه الكبير حاتم:

- لم لا تطلب منه أن يطلقها يا أخي سارة لا تزال شابه صغيرة والكل يتمناها   فلا ضير في ذلك.

وأكمل آخر : 

  - نعم يا عبدالله  . ليس الأمر بتلك الصعوبة، فهما لم يقضيا وقتا طويلا مع بعضهما بعد، وهذا يسهل الأمور. لا تزال علاقتهما في بدايتها.
قال حاتم ألذي كان أقرب الإخوة من تفكير والدهم :

- اسمع يا عبدالله . لعل هذه الزيجة خاطئة منذ البداية. أنت تعلم ان عاداتنا تقتضي بأن تزوج الفتاة من أحد شباب عائلتها.

لا ادري لم كسرت هذه  القاعدة المهمة وخالفتنا من البداية؟صحيح انه ليس في العائلة شاب يصلح لأن يكون زوجا لها . لكن في القبيلة الكثيرين من هم مثل عادل وأفضل. ام بسبب كون عادل من المدينة  فضلته على شباب قبيلتنا؟
وأكمل عليه خالد :  

 - أنا أرى أن كلام والدي صحيح. فنحن لا نعلم بطباع أهل المدينة. إن سارة هنا على الأقل كانت ستعيش حياة تألفها. بدل أن تتغرب عنا هناك في حياة لم تعهدها من قبل.
وأكد عليه سليمان:

- الجميع على حق يا عبدالله،  ثم إن رضى والدي أهم من كل شيء. وأظن أن عادل و سارة لا يرضيان بحدوث هذه القطيعة. وبما انه لا يوجد حل وسط. أرى أن تقدم رضى والدنا على كل شيء.  

هكذا بدأ الإخوة يقنعون أخاهم بفكرة الطلاق.. إلا أن عزم على تنفيذها.  عاد  إلى منزله لا يحرك تفكيره سوى سلطة الأب الكبير والعائلة والقبيلة. ترك سعادة ابنته جانبا وقرر إخبار عادل بأسرع ما يمكن.


 صعقت زوجته من الخبر. لكنه راح يعب عقلها بما صب في عقله هو.  بكت الزوجه وقالت :

- لكن يا عبدالله لا أود تخيل وقع هذا الخبر على ابنتنا. إن ذلك أمر قاس
- لا تقلقي سأبحث لها عن زوج أجدر بها.فأنكست الزوجه رأسها تفكر وقد سلمت للأمر.


لم يكن الحبيبان يعلمان ما يخبئ لهما القدر. كانا يرفلان في بحور السعادة.  وفي ذلك اليوم الذي أبرم القوم امر طلاقهما كان عادل وسارة في منزلهما يستعدان للخروج في نزهه كعادتهما في عطلة كل أسبوع.  

وفي طريقهما إلى احدى الحدائق .استقبل عادل اتصالا من والد سارة يخبره بأنه يتمنى منه أن يذهب لزيارتهم لأمر مستعجل

شعرت سارة بالقلق. كانت خائفة من أن يكون شيء قد حدث لجدها.  فعادا سريعا إلي المنزل ليجهزا أمتعتهما.
وما هي إلا ساعات حتى كان الإثنان في منزل سارة. جرت سارة إلى والدتها تحتضنها رأت لمحة حزن في عينيها فقالت فزعه:

-  ماذا هنأك يا أمي؟ احدث شيء لجدي؟ 

 كادت الدمعة تسقط من عين الأم وهي تقول في سرها :

- هذا  الجد الذي تقلقين عليه سيهدم أغلى ما تملكين يا ابنتي.

دخل عادل إلى مجلس الرجال حيث اجتمع هناك بوالد سارة و أكبر أعمامها.  وبينما هم يتجاذبون أطراف الحديث. دخل والده وكان الكدر باديا عليه.

ازداد القلق لدى عادل وعلم أن ما خفي لن يكون سارا. ود لو يصرخ فيهم كفأكم تلاعبا بأعصابي افصحوا بما لديكم.
وعندما حان الوقت بدأ والد سارة الحديث وبدا في تلك اللحظة كأنه لا يخاطب الا نفسه : 

-  تعلمون جميعا أن بعض الأمور قد تخرج عن إرادتنا. ولعل أخطاء صغيرة توقعنا في مشاكل كبيرة.  فإن كان الخطأ الصغير قد تم فإن الحل الوحيد هو تلافي حدوث مشاكل أدهى وأمر.

في تلك الساعات شعر عادل بأن الفأس بات قريبا فقال بتوتر واضح :

- افصح ما لديك يا عمي، لما أجد نفسي فجأة هنا مجبرا على سماع حديث  يدور رحاه عن المشاكل؟. بالله عليك طمئني ما الذي حدث؟
 تكفل عم سارة الأكبر بالإجابة :

- كل ما في الأمر يا عادل اننا نطلب منك طلاق سارة.
وصل الخبر لعادل كالصاعقة. أهذه مزحة؟ كيف يبدوا الامر لهم بهذه السهولة!
نظر عادل نحو والده الذي كان مطرقا. لائذا بالصمت. لم تكن ملامح الجميع تنطق بشيء. كانت جامدة قاسية في وجه الشاب المرعوب.   فقال باندهاش:

 - أطلقها؟ ولماذا اطلقها يا عم؟ هل فعلتُ شيئاً مسيئاً ؟  أجاب والد سارة بحزم :

- كلا لم تفعل . لكني اخطأت خطائين فادحين عندما لم أنتظر والدي حتى يعود. وكان هذا الخبر صدمة له. ثم اخطأت مرة اخرى عندما سمحت بتنفيذ العرس.  كأن ذلك تصرف مجحف بحق والدي. فالأمر بيده.. وأنا بفعلتي أشعرته بالمهانة.  عادل أنت شاب عاقل وستتفهم ما أقول. إن والدي رجل كبير، وكلمته بيننا لا ترد. لا يمكننا افتعال مشاكل بين العائلتين. لذلك اطلب منك تسريح ابنتي.

 زاغت عينا عادل وهو في ذهول تام:

- لا لا استطيع يا عم. انت تطلب مني المستحيل.. يمكننا إرضاء الجد بطريقة اخرى.  نظر إليه والده وقال كمن يبت امرا لا رجعة فيه :

- عادل .. بني .. عليك أن تعلم أن هذه أمور عائليه لا نقاش فيها. قد يكون حالنا في المدينة مختلف كثيرا ولهذا قد يصعب عليك استيعاب القضية هنا. لكني أرجو منك أن تكون أكثر تعقلا  وتنفذ رغبة الجد. دعنا نحافظ على سلامة علاقتنا ببعضنا

ونحن لا نريد إثارة المشاكل.هنا شعر عادل بالضعف.. الكل ضده وكأنه واقع تحت مؤامرة حيكت في  الخفاء لتطبق عليه.كاد يبكي كالطفل الذي سلبت منه لعبته الثمينة بعد أن تعب في الحصول عليها. لكنه تمالك نفسه واستأذن للانصراف.

وبصوت خنقته العبرة قال :

- اريد أن أبقى لوحدي قليلا. وسأفكر في الأمر.  ثم أكمل في نفسه: سحقا وكأنهم تركوا لي فرصة لأفكر!.أجابه والد سارة :

- أتمنى لك التوفيق يا ولدي. وصدقني إني مكره على هذا. ولكن هذا هو القدر.
غادر عادل وما أن دخل سيارته حتى فجر خزان الدموع المحبوس في عينيه بعد ان فاض الكثير منه بداخله.
بعد ان انفض المجلس سألت سارة والدها عن عادل فأخبرها بأنه غادر.  بكل دهشة قالت :

- غادر؟ إلى أين؟ وكيف يغادر وهو لم يخبرني حتى؟

 تأملها والدها مليا. كان مشفقا لحالها وللخبر الذي ستتلقى .. لذا ظل صامتا وغادر.
أسرعت سارة إلى الهاتف الذي كان مهملا في زاوية الغرفة.  طلبت رقم عادل بسرعه لكنه لم يرد.. حاولت مرار وتكرارا إلى أن أغلق عادل  هاتفه  كليا.صرخت غاضبة :

- ماذا حدث برب السماء؟
لم ينم اي منهما تلك الليلة ، عادل الذي جفت مقلتيه من الدموع يحاول أن يهيئ نفسه لقادم سيغدو كئيبا. وسارة  أرقها النوم وهي تفكر في زوجها الذي تركها تحارب الظنون.

وقف عادل أمام المرآه وفي داخله نشب صراع مرير. لابد أن يتحلى بالشجاعة ويقف أمام الجميع، معلنا رفضه التام لرغبتهم ولتذهب كل تلك العادات الى الجحيم.

لكن صوتا مريعا صرخ في داخله : كيف تجرؤ على ذلك؟ ألا تعلم أن الأمر حسم منذ مدة، ليس لك الخيار.

صرخ عادل وهو في قمة تعبه وانهياره: تبا لكل شيء!.

بعد يومين من الصراع قرر عادل أن ينهي العذاب بسرعة. أدرك أنه لا خيار آخر. فقد  سدت كل السبل أمامه فجأة.

بيد ترتعش اتصل بسارة.   لم يستطع أن يغير من نبرة الحزن الصارخة  في صوته عندما كلمها .  بكت  سارة عندما سمعته وقالت تعاتبه :

- لما رحلت هكذا يعادل لقد أقلقتني. ولم ترد على اتصالاتي. اخبرني ما الذي حدث؟.  

قال بصوت يائس:

- عزيزتي ارجو أن تتحملي ما سأقول. صمت قليلا.. وتنهد بحرارة ثم قال :

أنت يا سارة طالق.

اتسعت عينيها وضغطت على سماعة الهاتف بشدة، حاولت أن تتماسك كل لا تقع من هول الصدمة.

- ماذا تقول يا عادل؟ ..ثم ماتت كل الكلمات في داخلها.  

ولأول مرة تسمع صوت بكاء حبيبها الذي ما عشق القلب يوما أحدا مثله.بكل ضعف قال لها :

- إنها رغبة جدك يا سارة. إن أهلك كلهم أرغموني على هذا. لا اود إذائك يا عزيزتي.. لكن.. لكن هذه التقاليد بائسة.. الظالمه قتلت علاقتنا.

رمت سارة الهاتف بعيدا.. وراحت تجري وهي تبكي إلى منزل جدها.
عندما دخلت رأت جدها وعمها يتناقشون في أمر ما.. بدون أي مقدمات صرخت في وجههم :

- لماذا أبعدتم عادل عني؟ ما الذي فعلناه لنستحق هذه الطعنة المميتة منكم..

وقبل أن تكمل أكثر اقترب منها  جدها الذي بدا غاضبا جدا و صفعها بقوة. صارخة في وجهها المحمر:   

- يا شقية اترفعين صوتك علينا؟.. منذ متى لصبية مثلك لسان بهذا الطول.  إنه  هو الذي أفسدك.  إبتعدتي عنا فنسيت أخلاقنا التي ربيتي عليها.  لم أكن لأسمح بهذا الزواج ابدا. وها أنت تثبتين لنا أن رأينا كان صائبا. لقد افسدتك طباع أهل المدينة.


جاء والدها وشاهدها مرتمية على الأرض تبكي.  

عندما شاهدت أباها اشتعل الغضب بداخلها مجددا. لم لم يقف بجانبها ؟ لما لا يزال يتمسك مثل جدها بتقاليد عفى عليها الزمن.  قامت من مكانها ومن بين دموعها صرخت مجددا

-  ستندمون كثيرا، ولن أسامحكم بعد هذا ابدا..

اعتزلت سارة منذ ذلك اليوم الجميع. رفضت كل محاولات والديها لإقناعها. كانت تقول في سرها وهي تبكي:  ماذا يريدون مني بعد كل هذا. أيقتلونني ويمشون في جنازتي!! . يال سهولة الأمر لديهم.
أهملت سارة صحتها. وقد عافت كل شيء.   

بدى الوهن واضحا  عليها.. استمر حالها هكذا أسبوع كامل دخلت بعدها في دوامة حمى شديدة.. كما عانت فيها من نوبات الهذيان والاكتئاب  المتكررة، و لم تخرج منها إلا فاقدة العقل.هكذا أصبحت سارة فتاة الثامنة عشرة مجنونة  لا تدرك من أمر دنياها شيء.


وكم فجع أهلها بهذا المصاب وأدركوا بعد أن سبق السيف العذل كم أجرموا في حقها.لم يطق والدها رؤيتها. وكان يتحاشى ذلك؛  فكلما رائها تعذب بسياط الضمير، ذلك  القاضي  الذي لا يرحم المذنب ابدا.ولهذا قرر  إرسالها إلى مصحة عقلية

عل ذلك يخفف عنه وطأة العذاب الداخلي الذي بات يعيش فيه.لم يكن  الذهاب إلى المصحة العقلية يعني أي شيء  لسارة. تساوت الأمور الأماكن كلها لديها.  


اما بالنسبة لعادل فقد قرر بعد سنة  من هذه الحادثة الزواج مرة أخرى. ممنيا نفسه بنسيان كل شيء يتعلق بسارة التي لم يعلم بمصيرها

لكن الأقدار لم تمهله كثيرا فلم يمض على زواجه سوى بضعة أشهر. حتى داهمه مرض شديد. أودى بحياته. لتعود روحه إلى بارئها.
 هكذا انتهت قصة عادل وسارة بعد أن طحن حبهما برحى التقاليد التي لا ترحم.


تمت.