ذات صباح مغطى بأكوام الغيوم ، انطلق سعيد إلى الزاوية الصغيرة التي كانت بمثابة المقهى الذي يجمعه برفاقه ، مدندنا بأغنية شعبية بهيجة ، حيته عجوز كانت تنثر الحبوب للطيور من نافذة بيتها الطيني ، رد عليها بمرح وأكمل طريقه مغمضا عينيه محاولا تذوق كلمات الأغنية ولكنه شعر فجأة بكتف عريض يصطدم به جعله يوشك على الوقوع أرضا بعد أن إختل توازن مشيته ، فتح عينيه ورأى صاحبه مرهون يجري مسرعا وكأن شبحا مريعا يتعقبه.
صرخ سعيد غاضبا وقد غاضه تصرف صديقه :
- يا مجنون ألا يمكنك أن ترى من يمشي أمامك !
لم يلتفت إليه مرهون واكتفى بالصراخ :
- حدث جلل يا صاح الحق بي بسرعة.
وفي تلك الزاوية المحشورة بين ثلاثة بيوت طينية خربة وصل سعيد ومرهون وكل منهما يحاول التقاط أنفاسه ، في الوقت الذي كان فيه كل من خالد وعبيد يشربون قهوتهم الصباحية.
رفع خالد حاجباه متسائلا :
- مالذي دهاكما في هذه الساعة؟
نظر سعيد لمرهون وغضبه لم يهدأ بعد :
- تكلم الآن اي خطب جلل ذلك الذي حدث؟
- أعلنت الحرب يا رجال.
صرخ الجميع بذهول :
- الحرب ! حرب من مع من ؟
مسح مرهون حبات العرق المنسابة على جبينه وقال :
- حرب بيننا وبين قبيلة غفر عدل خالد من جلسته وارتشف آخر ما تبقى في فنجان قهوته :
- وما الذي حدث لتقوم الحرب بيننا !!
تمهل مرهون قبل أن يجيب وهو يقلب بصره في الوجوه الواجمه أمامه :
- بالأمس عندما كنا في سبلة القرية ، حدث جدال حاد بين شيخ قبيلتنا وشيخ قبيلة الغفر حول البئر التي حفرت مؤخرا..شيخ قبيلتنا يقول أن البئر توجد في أراضينا لذلك هي لنا ، في حين أن شيخ الغفر انزعج وقال أن رجال قبيلته هم من وجدوها.. اشتد الخلاف واشترك الجميع فيه ، كل يساند شيخه ، حتى اؤلئك الذين جاؤوا مؤخرا شاركوا في معركة الألسن التي ثارت .
حاولت مع مجموعة من الرجال تهدئة الوضع ، لكن المخادع سويلم استطاع بلسانة الذي يقطر سما أن يزيد من حدة الموقف ، فلم يلتفت لنا أحد.
قطب عبيد حاجبية وقال بانزعاج :
- يال السخف كيف لبئر ان تثير الحرب بيننا !
- ليت الأمر يا رجل توقف عند قضية البئر ، بل انها تشعبت وأصبحت اكثر تعقيدا ، بعد أن أثار مريدو الفتن حادثة القتل التي حدثت قبل عشرين سنة والتي اخمدها شيخ الاصلاح الراحل - رحمة الله على روحه - وما تلى تلك الحادثة المشؤمة من أحداث. بإختصار لقد نبشوا الماضي المدفون نبشا مريعا !
مرت لحظة صمت بين الأربعة ، ثم اتجهت الأنظار إلى سعيد الذي كان مستندا على الجدار الطيني محدقا في الأفق بذهول.
ضربه مرهون على كتفه وقال:
- مابك يا رجل هل عقد لسانك ! نحن منشغلون بهذه الحرب اللعينة التي ستحدث وأنت واقف هكذا كأن الأمر لا يعنيك !
ردد سعيد في داخله " لا يعنيني !! "
ثم قال بصوت واهن كأنه يخاطب نفسه مجددا :
- ومتى ستبدأ هذه النار التي لاحت بدخانها لنا بين ليلة وضحاها؟
- لقد اقسموا أنها ستبدأ بعد ثلاثة أسابيع وقبل ذلك سيتم وضع حاجز سلكي يفصل أراضي القبيلتيين عن بعضهما.
تفرق الأصدقاء بعد أن يأسوا من ايجاد حل لهذه المعضلة التي داهمت أمنهم.
وفي طريق عودته راح سعيد يفكر في حبيبته ، ومصير حبهما بعد هذه الحرب التي قطعا ستفرق بينهم !
وعندما كان الرجال من كلا القبيلتين يثبتون بإحكام ذلك السياج الفاصل ، كان سعيد يراقبهم من بعيد ، والوجع في قلبه قد تضخم. لم يستطع الاقتراب منهم خوفا من أن تفضحه مشاعره أمام الرجال الغاضبين ، المحرَكين من قبل الفتنة السوداء التي أسقطها أحد الخائنين بينهم.
وعندما رسخت جذور السياج في الأرض انتشر الجميع عائدين إلى اراضيهم مطمئنين ، كأن عقدة من الخوف من الآخر قد فكت !
فكر سعيد في خطة تجمعه بحبيبته ليلى لعلهما يستطيعان التفكير معا في سبيل للهرب من هذا الجحيم الموشك على إلتهامهم جميعا. بعث برسالة لها ، يخبرها فيها بموعد لقائهما ، عندما تخضع القرية لحكم الليل وتبتلع البيوت ساكنيها.
أحكم ربط رسالته العاجله في رجل حمامته البيضاء التي كانت رسول المحبة بينهما منذ مدة طويلة.
كانت ليلى تستعد للنوم عندما سمعت هديل الحمامة على نافذة غرفتها.
أمسكت بالرسالة التي انتظرتها في شوق عارم ، وراحت تقرأها وقلبها ينتفض خوفا من مستقبل بدا غائما كئيبا.
قررت بعد صراع داخلي المخاطرة والتسلل من البيت إلى مكان اللقاء الموعود.
وعند السياج تشابكت أيدي المحبين، كل واحد منهما كان يحاول أن يبث الأمل في داخل الآخر..الأمل الذي لم يوجد حينها في قلب أيا منهما ! .
لكن الحب الذي لم يأبه لجور الظروف راح يمنيهما بغد أكثر إشراقا.
ومنذ ذلك اللقاء الأول عند السياج تعددت اللقاءات بين الحبيبن اللذان كانا يرسمان معا خطة مناسبة للهرب.كانت الأسلاك رغم قسوتها حانية عليهما ، مشفقة لحالهما ، فوجدا نوعا من الأمان بقربها.
وفي اليوم الخامس من بدء لقائهما راح سعيد يشرح لليلى المسار الذي يجب أن يتبعه كل منهما وأخبرها بمكان لقائهما. وقبل أن تفترق الأيدي المتصافحة سمعا صوت بوق آتيا من البرج البعيد ، نافضا ذرات الليل الساكنة.
ضغط سعيد على يدها وهمس :
- لا تخافي ، لابد ان نبقى ساكنين حتى لا يشعر بنا أحد.
لم يكونا يعلمان سر تلك الاشارة الصوتية. التي اتفقت القبيلتين عليها للإخبار عن وجود من يحاول خرق القوانين ويعبر من السور ، او إحتمالية وجود متجسس من القبيلتين.
خرج الرجال من كلا القبيلتين للقضاء على الخائنين.
أمسك صابر سلاح الكند وصوب فوهته نحو سعيد وصرخ :
- قف مكانك أيها الجاسوس الخائن.
وقبل أن يتمكن سعيد من الالتفات كانت الرصاصة قد تمكنت منه بلا رحمة.
صرخت ليلى خوفا من هول ما حدث ، وقد مدها القمر بما يكفي من النور لترى سعيد مضرجا بدمائه ، وقد زاغ بصره وخمد نفسه إلى الأبد ، وقبل أن يقترب منها أهل قبيلتها ليكشفوا عن هويتها ، كان الرعب والحزن معا قد تمكنا من قتلها ، وسقطت من إثر ذلك جثة لا حراك فيها.
اجتمعت كل قبيلة أمام فقيدها وقد اخذهم الموقف ، كان المشهد هناك عند السياج مريعا.
حبيبان طائشان قررا الانتقام لحبهما ، والتمرد على الحرب الغاشمة فكانا أول ضحاياها !
ولكن الموت الجاثم أمام السياج لم يتمكن من إطفاء الحرب ، بل العكس من ذلك ، استعرت العصبية في كل قبيلة ، واضافوا ما حدث كسبب آخر لابد ان تقوم الحرب لأجله !.
وفي تلك الليلة عندما انسحب الجميع من جنب السياج حاملين في موكب بائس الجثمانين ، حطت على السياج حمامة بيضاء لا يزال في رجلها اليمنى خيط رسالة ، أدارت عينيها حول المكان ثم طارت محلقة بعد أن عزفت مقطوعة هديل للراحلين.
تمت.