(1)
الساعة الآن تقترب من التاسعة والنصف تقريبا، لا أملك ساعة لكي أعرف بها الوقت لكني قادر على تخمين ذلك من رؤية النجوم ومن هدوء القرية، التي يبتلعها سواد الليل فلا تجد فيها منزلا مضاءً في مثل هذا الوقت، إلا منزلنا!.
تكورت على نفسي، محاولا الهروب بعيدا عن كل ما حولي، كنت في زاوية الغرفة يحتضنني الألم، ففي خارجها يقف والدي ملوحا بزجاجة الخمر التي في يده، كان يتمايل ذات اليمين وذات الشمال ، يهدد ويتوعد ، تارة يلقي بكلامه على والدتي التي تحاول التشاغل عنه بحياكة قميص صوفي، وكان الصوف في يدها باهت اللون، باعثا على الكآبة بلونه الرمادي، بدا وكأنه يشاطر أمي ما تتكبده من عناء، ويمتص معها كل اللعنات التي تخرج من فم أبي.
وتارة أخرى تجده يلقي بلومه على كل شيء في هذا العالم الذي يدعي انه ظلمه ، وانه سبب في بؤسه وشقاءه!.
لم يكن أبي رجلا سكيرا مهملا كما هو حاله الآن، لكنه فقد تجارته ذات يوم بسبب الكساد الذي ضرب السوق ، وبعد أن ابتلع الجفاف المزرعة الوحيدة التي نمتلكها. لم يكن يملك الشجاعة ليبدأ من جديد ؛ لهذا سلك هذا الطريق ظانا بأن هذا سينسيه كل الهموم التي تجثوا فوق رأسه.
مضت خمس سنوات وهو على هذا الحال، وفي كل يوم يزداد طبعه سوءا ، ويزداد عنفه مع والدتي ، أما أنا فلم يكن يبدي أي اهتمام بي وكأنني لم أخلق من صلبه أبدا!.
والدتي لا تزال صغيرة في السن، لم تتجاوز الثامنة والثلاثين ، غير أن الذي يراها يحسب أنها في الخمسين أو أكثر!.
حياتنا الصعبة أفقدتها الكثير. بدا الوهن واضحا في جسدها، وزادت حالتها سوءا بعد إصابتها بفقر دمٍ حاد.
كنت يومها في الثامنة عشرة ، لم أكن ألقي بالا لحال أبي، ولا لما يتفوه به من كلمات ، فقد كان معتادا على ذلك ، وعلى تركنا لأيام ، لكن في ذلك اليوم بدت حالته أكثر سوءا ، وأحسست حينها أن الليلة لن تمضي على خير.
(2)
وبينما أنا مختبئ بجبن في زاوية غرفتي المظلمة سمعت صراخه الذي كان عاليا جدا، لدرجة أنني خفت على أمي ، ولولا خوفي من أن تزيدهُ رؤيتي قسوة لخرجت لأحميها منه.
سمعت صوت ارتطام زجاجة الخمر بالجدار وتكسرها لأشلاء. تلاه صوت الباب وهو يغلق بقوة.
الأمر الذي يعني أن أبي قد خرج إلى حيث لا نعلم مجددا !.
أسرعت خارجا من عتمتي لأطمئن عليها ، وجدتها تحتضن قطعة الصوف التي تحيكها وهي تبكي بصمت. احتضنتها بقوة ، محاولا التخفيف عنها، يومها أدركت بأني شاب بائس وجبان ، وإلا لكنت قد أنقذت أمي من هذا الوضع ، وتمكنت من إيجاد مهنة تنقذنا من شرور أبي.
هدئت أمي بين أحضاني ثم نامت تحت وطأة التعب.
مسحت على شعرات رأسها الذي شاب. وقلت في نفسي كم من الهموم تحملين في جوف هذا الرأس يا أماه.
وسدتها في فراشها ومضيت إلى غرفتي ابتلع الظلمة وتبتلعني.
صحوت فجرا وذهبت لأطمئن على أمي ، كانت ما تزال نائمة أو هكذا ظننت وقتها ، اقتربت منها لأوقظها ، ناديت عليها بهدوء لكن جسدها كان ممدا في الفراش بلا حراك ، بدت ملامح وجهها اكثر هدوءا من أي وقت مضى ، أصابت رجفة مرعبة عظامي ، اقتربت لألمسها فإذا هي باردة كبرودة فجر ذلك اليوم. حركتها بلطف ، غير أن الحقيقة كانت مصرة على أن تصفعني بقوة ، لأدرك أن أمي غدت جثة هامدة بلا روح!
صرخت بكل ما اعترى نفسي من مشاعر.. خوف وحزن وألم.. واتجهت مسرعا إلى الباب ، قاصدا المسجد الذي يقع في منتصف القرية.
لم أأمل من احد المساعدة سوى إمام مسجدنا.. فلطالما عانيت وعانت أمي من أهالي هذه القرية الكثير ؛ لأننا اشدهم فقرا ولأننا كنا كالغرباء لا صلة تربطنا بهم سوى المكان الذي نسكن فيه ؛ فقد جاء والدي إلى هذه القرية منذ زمن ولم يختلطا كثيرا بأهلها ، وما زاد الأمر سوءا هو الحال الذي انقلب إليه والدي ، ومقت الناس له لأنه حاد عن ما تعارفوا عليه من قيم.
وصلت إلى المسجد وأنا ألهث ، وعيناي تسحان دموعهما الثقال ، كان في المسجد ثلة من الرجال الذين أتوا مبكرين.
كل النظرات المصوبة نحوي كانت تنطق بالدهشة. اقترب مني إمام المسجد وهو شيخ تجاوز الستين على ما أظن ، ربت على كتفي وقال لي بصوته الباعث على السكينة:
- اهدأ يا سالم وأخبرنا مالذي جرى لتبدو هكذا ؟.
كانت عيناه المتفحصتان في حالي بدقة تعلمان أن ما جاء بي في تلك الساعة إلا أمر جلل ، نظرت إليه صامتا للحظات ، ثم نكست رأسي إلي الأرض متجرعا الحزن وأخبرته بوفاة والدتي.
جاءني صوته الهادئ بنبرة حزينة مرددا "إنا لله وإنا إليه راجعون" .
التفت الإمام للرجال الموجودين بالمسجد ودعاهم للقدوم . أخبرهم بالأمر فقدّم كل واحد منهم لأجلي كلمات العزاء . كنت في حالة ذهول عن كل ما حولي ، افكر في أمي الراحلة ، والوحدة القاتمة التي تنتظرني ، محاولا تصديق الواقع.. واقعي الذي بدا لي في تلك اللحظة ضبابيا قاتماً .
(3)
تعاون سكان قريتي جميعا في إتمام العزاء. وكم كنت ممتنا لهم حقا.
بقيت بعدها لأيام حبيس جدران منزلي الذي غادرته الروح هو الأخر . كان إمام المسجد يحاول التخفيف عني بعد كل صلاة ، داعيا إياي لأن انتشل نفسي من مستنقع الحزن الذي ركدت فيه بوهن . لم ألق بالا لكل ما قيل لي . كنت محبطا حقا ، محبط بحجم الفقد الذي منيت به.
أما والدي فإني لم أراه أبداً بعد تلك الليلة ، ولعلي كنت سأرتكب جريمة بحقه إن رأيته، فما تذكرته إلا وارتفع مع ذكراه الأدرينالين في جسدي، مثيرا كل شحنات الشر والغضب العارم اتجاهه في داخلي .
بعد أيام قررت الخروج. أدركت أن البقاء وحيدا ما هو إلا موت بطيء.
خرجت إلى سوق القرية ألتمس عملا عند أحدهم، لكنني تلقيت طعنات جارحة من عيون أهل القرية ، صغارهم وكبارهم ، بل إن البعض لم يخجل من إسماعي كلمات الشفقة والرثاء على حالي ، وأبوا إلا أن يوصموني بعار أبي.
كان ذنبه الذي تحملته مكرها. لم أكن قادرا على التحمل اكثر ، جحيم العيش في قريتي لم يعد يطاق. ولم أجد من بينهم يدا رحيمة عدا الإمام وزوجته.
لذا قررت ذات مساء مغادرة القرية ، فجمعت أغراضي على مهل. لا أخفيكم كم أنني كنت حزينا لفراق قريتي ، رغم قلة الذكريات الجميلة التي أحملها فيها. لكن لم يعد هناك مجال للتراجع.
انتظرت سكون القرية واستسلامها لحكم الليل.
وعندما رأيت أن بيوتها قد راحت في سبات عميق خرجت حاملا حقيبة ظهري وحزمة صغيره بها زادي من الأكل والشرب.
لم اكن واثقا من العودة إليها مجددا إلا أن شعورا راودني حينها بأني سأعود. أغلفت باب المنزل بإحكام ومضيت في طريقي متجها إلى الشرق.
وقبل أن تبتلع المسافات قريتي، وتبعدها عن ناظري رقيت إلى إحدى الجبال، وقد كانت ليلة مقمرة، لذا تمكنت من رؤية ملامح قريتي الصغيرة المحاطة من كل جوانبها بالسلاسل الجبلية وهي في قلب هذه السلسلة.
بدت الجبال كأم رؤوم تحتضن طفلها الصغير بحنان، وإن كان هذا الاحتضان قد نأى بها عن العالم الخارجي ومجرياته.
أغمضت عيناي لأخزن صورتها في ذهني إلى الأبد ، حينها لاح لي شريط ذكرياتي بكل ما فيه، شريط جمع بين دفء الربيع وقسوة الشتاء. بين ظلمة الليل ونور النهار. لا انكر أني عشت طفولة سعيدة ، كنت طفلا يشع حيوية ، مستمتعا مع بقية الأطفال باكتشاف أسرار قريتنا ، مفتشين بين زواياها عن كل المتع البريئة.
لكن شريط ذكرياتي ظهرت به التعرجات عندما أصابت النكبة أسرتي ، وانجراف والدي في درب خاطئ لا تقبله أعراف القرية وقيمها. من يومها ابتعد عنا أهالي القرية، بعضهم كان يقول بأن لعنة من السماء نزلت علينا لأن والدي لم يكن رجلا شريفا ، وهناك من اتهم والدتي وقال أنها هي مصدر النحس كعادة النساء ! ولا ادري لما؟
تذكرت جفاء الأصدقاء وخذلانهم لي ، لم يكن أحدهم يجرؤ لان يصاحب ابن السكير!. أتراهم كانوا على صواب؟ هل كنت سأقاسمهم لعنتي التي التصقت بي دون أن يكون لي يد فيها؟!
وتوقف بي الشريط عند ذكرى وفاة والدتي ، ونظرات الشفقة التي قوبلت بها من الجميع ، وإشعارهم إياي بأني ضعيف بائس كتب لي الشقاء!.
فتحت عيناي ببطء . دمعة حرى نزلت تلهب وجهي الذي انتفض كبركان يغلي من الحمم التي يخفيها في باطنه.
مسحت دمعتي بظهر كفي، وحدقت في القرية بكل كره الدنيا ، وفي قلبي هاجس يقول لي لابد أن تنتقم منهم جميعا ذات يوم.
(4)
أكملت طريقي لا أعرف أين تأخذني قدماي ، كان مصيري معتما أمامي . وقد أسررت لنفسي بأني سأصنع مستقبلي بيدي هذه المرة بعد أن عانيت من الماضي الذي تدخل في رسمه والدي وسكان قريتي.
قررت نسيان كل الأحداث السوداوية التي مررت بها ، وتمزيق كل صفحة لا تروق لي. أريد أن أبقي على الربيع ، الربيع لا غير في حياتي. كنت مدركا أن أياما صعبة بانتظاري لكنني عقدت صلحا مع ذاتي ووعدتها بأني سأحاول جاهدا لأن أشكل لوحتي التي أريد.
واصلت المسير أربعة أيام إلى أن وصلت إلى إحدى القرى ، بدت لي بمزارع النخيل بديعة المنظر ، استبشرت خيرا ودخلت إليها . كنت أمشي في طريق يشق المزارع. وكانت الشمس قد انتصبت في كبد السماء . والحر شديد ، وقد بلغ بي التعب مبلغا شديدا.
انعطفت يمينا متجها نحو إحدى المزارع التي كانت كحديقة غناء ، بها أشجار الليمون والزيتون والبرتقال وكروم العنب ، إلى جانب أشجار النخيل المثمرة ، وفي وتلك الحديقة البديعة رأيت جدول ماء يجري. كان كل شيء كسراب أمامي ، أربعة أيام من المشي أرهقت كل عضلة في جسدي ، وسلبت مني كل الزاد الذي كان معي . لذا كانت هذه الحديقة حلم جميل ساقتني إليه الأقدار.
شربت من ماء الجدول حتى ارتويت ، وأسندت ظهري إلى أقرب شجرة زيتون كانت بقرب الجدول . أنزلت قبعتي المغبرة على وجهي ، ورحت في نوم عميق.
استيقظت بعد فترة فزعا على صوت أحدهم ، لم ادري كم من الوقت مضى علي وأنا نائم لكن يبدو أني استغرقت وقتا طويلا ، لأن الشمس قد قاربت على المغيب.
حدقت بفزع في الرجل الذي كان يناديني ، كان يبعد عني مسافة ليست بالطويلة لكنه لم يكن قريبا ، لعل رؤيتي في مزرعته أثارت توجسه.
كانت هيئته تبعث على الهيبة والاحترام بدى حسب توقعاتي في منتصف الأربعين أو أكثر بقليل. وكم كنت خائفا حينها من أن أقع في مشكلة جديدة ، أو أن يظن بي شرا، لم يكن ينقصني سوى أن أتورط مع هذا الرجل.
انتشلني من مخاوفي صوته الهادئ وهو يقترب ليمد لي يده للسلام
- السلام عليك أيها الفتى.
- وعليكم السلام يا عم.
- لقد كنت نائما بعمق، ولم أشأ أن أوقظك. لكن الليل سيهبط علينا ، والمكوث في المزرعة سيغدو خطرا ؛ لهذا قررت إيقاظك قبل أن أغادر المزرعة.
أخجلني الرجل الذي بدا واضحا أنه مالك المزرعة بتصرفه. أطرقت وشكرته بامتنان.
- يبدو لي أنك غريب عن هذه الديار، ومظهرك يدل على أنك قادم من مكان بعيد.
قلت أخاطب نفسي "نعم إني غريب الدار. غريب عن كل ما حولي" ثم انتبهت لنظرات محدثي وقلت:
- نعم إني قادم من قرية الجبل.
هتف الرجل متعجبا:
- قرية الجبل!! هل قطعت كل هذه المسافة مشيا؟! تفحصني بنظراته الدهِشة وقال مستطردا : أيها الغريب قلي ما اسمك؟
- اسمي سالم يا عم.
- وأنا ربيع . تشرفت بمعرفتك يا سالم.
- شكرا لك يا عم ربيع ، شرف لي أن أصادف مثلك.
- تعال يا سالم إلى منزلي ، ستقضي الليلة معي ، فأنت ضيفنا اليوم.
كان منزله فخما ، بدا لي وأنا القادم من عمق قرية جبلية نائية كقصر كبير.
عرفت منه بأنه يعمل في التجارة ، كان يسكن مع زوجته وابنته التي تصغرني بخمس سنوات. تحدثنا بعد العشاء مطولا عن حالي ، أخبرته بأني لم اخطط بعد لوجهة معينة. كل ما كنت ارجوه هو أن احصل على عمل أرتزق منه.
قال لي باسما:
- لقد ساقتك إليّ الرحمة الإلهية ، فأنا منذ مدة ابحث عن شاب يعمل في مزرعتي ، وتجارتي تعيقني بعض الشيء عن الاهتمام بها.
سعدت جدا ، وأدركت أن أيام الشقاء ستزول عما قريب.
وافقت على طلبه دون تردد ، اتفقنا على كل شيء ، وتقرر أن أسكن منذ الغد في الملحق الصغير الموجود في بداية المزرعة. وهو قريب جدا من منزل التجار.
(5)
ومنذ أن استلمت عملي الجديد وأنا أشعر أن روحا جديدة تلبستني، غدت المزرعة معشوقتي التي أخاف أن يصيبها أي مكروه. عنيت بها بأفضل ما يكون. الأمر الذي انعكس إيجابا بفضل الله على إنتاجيتها.
كما أني أحببت أهالي القرية التي كانت تسمى بقرية المروج. و بعد مرور سنتين على عملي، اشتريت جزئا من المزرعة، وبدأت أتاجر بمحصولها.
كنت والتاجر ربيع شركاء رائعين ، واستفدنا سويا من هذه الشراكة ، لكن أجمل ما تعلمته منه هو القيم النبيلة التي ينبغي أن لا يفتقر إليها أي تاجر.
ابتسامته الصافية التي يقابل بها الجميع كانت احد أسرار شخصيته الرائعة، لقد كان محبوبا من الجميع. كما انه كان أمينا ، لدرجة أن بعض التجار من القرى المجاورة يستودعونه بضائعهم ليبيعها على أهل قرية المروج وزوارها ، الذين كانوا يأتون إليها كل صيف ، للتمتع بجوها وما تمتلكه من مناظر خلابه.
باختصار كان هو مثلي الذي اهتدي بتوجيهاته، وأنا المبتدئ في عالم التجارة.
وذات يوم وبينما أنا جالس تحت إحدى أشجار التفاح في مزرعتي ، أفكر في حالي كيف أتيت إلى هنا منذ اكثر من 6 سنوات ، فتى في الثامنة عشرة حائر لا يعلم أين ستؤدي به دروب الحياة في هذا العالم الواسع ، وكيف صرت الآن.. إذا بصوت رقيق يصل إلى مسمعي.
- السلام عليكم ورحمة الله
التفت إلى الخلف ، فإذا هي سمر ابنة التاجر ربيع ، تلك الصبية التي لم تتجاوز 13 عندما أتيت، أصبحت شابة ناضجة اليوم.
لم اعرفها في الوهلة الأولى إلا بعد أن قالت لي والحياء قد زين وجنتيها بالاحمرار ، مطرقة نحو الأرض :
- إن أبي يدعوك إلى المنزل فقد اشتد عليه المرض. ثم ذهبت مسرعة عائدة إلى المنزل.
بقيت واجما للحظات ، لأستوعب ما قالته ، ثم قمت من مكاني مسرعا وأنا أتسائل مالذي جرى ، فبالأمس كنا معا وكان على أتم صحته!.
عندما دخلت وجدت زوجته تخفف عنه الحمى بمناديل الماء الباردة. رحبت بقدومي وخرجت هي عندما أشار لها فتركتنا بمفردنا.
سألته عن صحته، فنظر لي باسما يقاوم ما يلم به.
- لا تقلق هذه ألام مرض القلب الذي أعاني منه منذ سنوات.
غير أني استدعيتك لأمر آخر، إني أود أن أزوجك ابنتي يا سالم وقد تعمدت إرسالها إليك ، اتفقنا أنا وزوجتي أن نفاتحك بهذا اليوم ، فإني لن أجد لها زوجا أفضل منك يا سالم. إلا أن الأمر يعود لك في نهاية الأمر . فانظر ماذا ترى.
فاجأني هذا الطلب فأجبته بعد هنيهة:
- إن ذلك شرف لي، شرفي لي يا عم ربيع بأن أرتبط بكريمتكم ، ولكن لتمهني إلى الغد حتى أرد عليك بقراري النهائي.
- لك ذلك يا سالم ، فكر في الأمر مليا ، وخذ ما يناسبك من الوقت.
في ذلك اليوم فكرت كثيرا ، لقد عشت في هذه القرية بضع سنوات وها هو التاجر ربيع يعرض علي الزواج من ابنته ، لم يسألني عن ماضي ، لم يحاسبني على خطأ أبي الذي ما فتأت أفكر فيه طوال هذه السنين.
أعادني هذا إلى قريتي مرة أخرى، إذ لم تفلح كل هذه السنوات في محو تلك الذكريات المؤلمة من ذاكرتي!.
وافقت على الزواج من سمر ، وقد كانت بالفعل نعم الزوجة ، أخذت من والدها سماته الحسنة التي أحب.
بعد مرور سنتين على زواجي ، وبعد أن رزقنا بطفلنا الأول "سعيد" قررت العودة إلى قريتي ، كنت دائما أشعر بأني غريب الدار فعلا في قرية المروج ، فرغم علاقتي الوطيدة بسكانها كنت أحن لقريتي التي طردني منها أهلها بجفاء بطريقتهم غير المباشرة ، أحن لروح أمي التي عاشت هناك ، وبقي في قلبي شوق كبير لمرتع الطفولة والصبا.
لم يكن القرار سهلا ، لقد كانت مسألة العودة تؤرقني منذ مدة ، كيف سيستقبلني الناس بعد كل هذه السنين ، أتراهم يتجاهلوني كما تجاهلوا والدي من قبل؟ ، ووالدي ماذا عنه؟ أتراه حي إلى اليوم؟ لقد اشغلني أمره كثيرا ، رغم ما حدث في الماضي إلا أنني أتمنى أن أراه ثانية بخير ، وأتمنى أن أتمكن من جعله يعيش حياة كريمة مرة أخرى.
(6)
ودعت أهالي قرية المروج وانطلقت مع عائلتي عائداً إلى قريتي ، لقد حرصت على إخبار سمر بذكرياتي الرائعة فيها ، أردتها أن تحب قريتي الجبلية الصغيرة المختبئة في أحضان الجبال ، لم أشأ أن ارسم صورة سيئة عنها ، فقد وعدت نفسي منذ أن خرجت بأن لا أبقي على الصفحات القاتمة في دفتر حياتي.
لم نستغرق في سفرنا الكثير من الوقت ، فبعد كل هذه السنوات تطور العالم وتحسنت الأوضاع المعيشية للكثير من الناس ، وأصبحت أمتلك سيارتي الخاصة التي سهلت لي الكثير من الأمور، منها رحلة عودتي.
عندما وصلنا إلى مشارف القرية لم اشعر إلا والدمعة تشق خدي ، لا أعلم سبب سقوطها من مدمعي ، كل المشاعر كانت ممتزجة في داخلي في تلك اللحظة.
أحسست بيد سمر الدافئة وهي تمسحها ، نظرت إليها فوجدتها تبتسم ، كنت سعيدا لأنها بقربي ، ما كنت أود دخول القرية وحيدا أعزلا كما خرجت . أمسكت بيدها ، وهمست لها :
- ستحبين قريتي يا سمر تلك الدمعة ما نزلت إلا لأني عشقت ذرات هذا المكان ، وسأكون سعيدا إن شاطرتني هذه المحبة.
بصوتها الحاني أجابت:
- لم اعش في قريتك يا عزيزي لكن حبك لها ، وحديثك الدائم عنها جعلني أحبها قبل أن أراها. هنا سنتشارك حلو الحياة ومرها يا سالم.
ابتسمت لها ومضينا في طريقنا إلى داخل القرية.
لقد لعبت الأيام قليلا بقريتي ، لم تخفَ عني بعض مظاهر التحضر البسيطة التي بدت في البيوت الحديثة ووجود السيارات التي كانت تعد بأصابع اليد على طرقاتها.
وصلت إلى منزلي الذي بقي صامدا كما هو ، لكنه كان باهتا ، فجعه غياب ساكنيه. تساءلت إن كان والدي قد جاء إلى هنا بعد رحيلي أم لا.
كانت الشمس قد قاربت على المغيب عندما وصلنا، تجمع بعض الأطفال حولنا، وحدق بعض الرجال الماضون في طريقهم إلى المسجد نحونا طويلا. لعلهم كانوا يتساءلون عن هويتنا كغرباء ، كلا لست غريبا وأنا هنا في داري، طعم الغربة موجع ، ولن أتجرعه مرارته مجددا، سأبني حياتي هنا كما أريد ، هانئة وسعيدة، وسأبذل ما بوسعي لأن أطور قريتي، فقد جمعت ثروة لا بأس بها، والأهم من المال لقد جمعت ثروة من القيم أكسبتني إياها الأيام، ومبادئ استند عليها في حياتي.
عندما لا مست يد الباب المغبرة ، صافحتني يد أمي في الخفاء ، وكأنها ترحب بي ، لن يبقى المكان الذي عاشت فيه مهجورا بعد اليوم ، أريد أن أحيي كل بقعة جلست عليها.
تعاونت وزوجتي وابني الصغير سعيد في نقل الأمتعة. كان المنزل قديما جدا ، لقد شاخ كثيرا هو الآخر.
خرجت من المنزل بعد سماعي لصوت الأذان. كنت أهيء نفسي لتلقي ردة فعل الأهالي، ماذا عساهم يقولون!
على أية حال كل ما كنت أريد معرفته هو السؤال عن أبي.
قبل أن أدخل حرم المسجد شاهدت شيخا كبيرا يتكأ على عصاه ، حدق كل منا في الآخر ، اتسعت حدقتا عيني وبدت مني صرخة دهشة ، لم يكن سوى إمام المسجد هتفت محييا :
- الشيخ رجب؟!!
رفع الإمام حاجبيه اللذان كانا يغطيان عينيه الغائرتان ، ليتفحصني مليا ، ويوقظ ذاكرته لعله يعرفني ثم قال متسائلا :
- أإنك أنت سالم؟
احتضنته بكل الشوق المكنون له في قلبي وأنا أبكي من الفرح شاكرا الله أن أبقاه حيا لهذا اليوم
- نعم أنا سالم يا معلمي ، سالم يا شيخي الجليل جئت بعد طول غياب.
ربت بيديه على ظهري ودنت منه تنهيدة باكية :
- أين كنت يا بني ، أين تركتنا كل هذه المدة؟.
تحدثنا قليلا قبل دخول وقت الصلاة ثم دخلنا معا إلى المسجد.
البعض عرفني فجاء مسرعا ليسلم علي، والبعض الآخر تغير فلم اعرفه ولم يعرفني، أصدقاء الطفولة رأيتهم هناك أيضا.
بعد انتهاء الصلاة تجمع الكل حولي، ليسمعوا مني ما جرى وأين كنت طوال تلك السنين.
وقبل أن أغادر انفردت بالشيخ رجب وسألته عن والدي.
نكس رأسه وقال:
- ذات يوم جاءني والدك وقد كان يبدو متعبا للغاية ، سألني عنك وعن والدتك ، أخبرته بوفاة والدتك أما خبرك كان مجهول عندي أنا أيضا، فقد غادرتنا دون وداع.
بكى والدك حينها كثيرا يا سالم ، لقد بكى ندما على كل شيء. أخذت بيده وعقدت العزم على أن أبصره بطريق النور مرة أخرى . وبفضل هداية الله ترك والدك شرب الخمور وداوم على حضوره إلى المسجد ، كان يبدو لي دائما باكي العينين واهن الجسد ، تمنيتك هنا لتخفف عنه ، لم يعش طويلا يا سالم ، فقد فاضت روحه ذات يوم وهو خارج من المسجد.
- وهل غير هذا من نظرة الناس له؟
هز رأسه نفيا وأجاب بصوت واهن:
- من المؤسف أن أقول لك عكس ذلك ، فقد كان أهالي القرية في جهلهم يعمهون ، لم تفلح محاولاتي في تصحيح حال والدك الذي آل إليه بعد عودته ، الكل راح يردد فكرة أن بذرة الشر مزروعة فيه . لا تزال فئة كبيرة من سكان القرية يؤمنون بالخرافات وأن اللعنة التي نزلت على والدك وقد تصيبهم إن خالطوه!
بكيت يومها كثيرا ، أسفا على موت والدي ، وعلى جفاء أهل القرية نحوه ، لكن خبر عودته وصلاحه خفف من حزني ودعوت الله له بالمغفرة والرحمة.
استقرت أوضاع أسرتي الصغيرة في القرية ، فتحت تجارتي فيها ، وتشاركت مع أحد الأصدقاء في بناء مدرسة للأطفال .
لم يعد هناك من يلقبني بابن السكير ، واختفت نظرات الازدراء والشفقة ، يبدو أن وضعي المادي أسهم بشكل كبير في مسح تلك الصورة ، نسوا بأني من صلب ذلك الرجل الملعون كما يدعون! يا ترى أتراهم كانوا سيعاملونني هكذا إن رجعت إليهم بوضع بائس؟!
هذا ما كنت أفكر فيه وأنا أتأمل النجوم بالقرب من الشجرة القريبة من منزلي.
جاء إلي ابني سعيد يدعوني للعشاء أخذته بين أحضاني وهمست له بود :
- بني إني أرجوا أن تعيش سعيدا دائما ، واجه الحياة بجلد وعزم ، ولا تعبأ بما يريده الناس منك وإلا صرت غريبا عن نفسك ، كن سعيدا في كل حال ، قد يرى الناس السعادة مقصورة لمن جمع المال وبنى بها القصور فيبالغون في إظهار الاحترام له ، وإن كان فقيرا لن يتوانوا عن إلصاق العيوب فيه ، دعك منهم يا بني فالسعادة تكمن هنا..
أمسكت بيده الصغيرة ووضعتها على الجانب الأيسر من صدره.
ابتسم سعيد ابن التاسعة ولعله لم يفهم ما قلت.
لقد قطعت عهدا على نفسي بأن أحرص ما استطعت أن اكون فرحا يذكرني به أبنائي غدا بعد رحيلي ، فحياتي القاسية التي عشتها في الماضي علمتني الكثير.
أمسكت يده الصغيرة ودخلنا سويا إلى المنزل.
تمت.