حدق المهندس المعماري ذو الخمسين عاما في أرجاء بلدته الصغيرة، تفحص تقاسيم ملامحها بدقة. كان يطل عليها من خلف النافذة الكبيرة لمكتبه. الذي يقع في الدور الخامس من مبنى الشركة التي يعمل بها.
فجأة قفز من مكانة جريا ليمسك ورقة وقلم؛ فثمة فكرة تأججت في ذهنة. وراحت تطرق باب مخيلته بشدة، طالبةً منه السماح لها بالدخول، ومجبرةَ إياه على التفكير فيها بشكل جاد. لهذا راح يضع تصورا دقيقا لها. عله بهذا يرضيها ويرضي نفسه الطامحة للتجديد.
أمسك بحاسوبه، ونقر على لوحة
المفاتيح بكل حماس ليكتب طلبه على الشبكة العنكبوتيه، وفي ثوان ظهرت له خريطةً جوية لبلدته. أخذ يركز فيها ويقرب تفاصيلها أكثر وكثر.
ثم صرخ بصوت عالي وقد تلبسه الفرح : نعم هنا.. هذه هي المنطقة المناسبة. يا إلهي إنها لفكرة رائعة. إذا نجحت في التخيطيط
الدقيق لها، وجسدتها على هذه الأوراق كما
يجب، فإنها ستغدو مشروعا ضخما، سينمي هذه البلده، بل لعلهم يتوسعون فيه
فينشأونه في أكثر من منطقة. ولما لا إنه يستحق. نعم نعم يستحق ان يوهب الحياة.
حدق في الخريطة مرة أخرى، وأخذ يتمتم بكلمات غير مفهومة من حين لآخر، وكأنه
يخاطب تلك الفكرة المجنونة التي حركت الخلايا الرمادية المبدعه في عقله.
أخرج كل الأدوات التي يحتاج إليها وقال لنفسه بعزم يستحثها على بدأ العمل:
إن الأمر لا يحتمل التأجيل، نحتاج إلى تنمية كل قطر في هذه الأرض؛ فهي لم تبخل
علينا يوما بشيء. لن اغادر المكتب إلا بعد ان انهي هذا العمل.
لم يعد إلا منزله في ذلك اليوم إلا بعد منتصف الليل، فقد عكف على مخططه، بعد
أن وعد فكرته بأن يريها النور قريبا.
إستقبلته زوجته بقلق : ما بالك تأخرت يا زوجي العزيز؟ لقد إتصلت بك عشرات
المرات. ألا تدري كم أرعبني غيابك!؟.
رأى القلق في عينيها، كما رأى حركة شفتيها، ولكنه لم يسمع شيئا مما قالت. كان مخمورا بنشوة الحلم حتى الثمالة. أمسك بيديها
وقال: سترين شيئا رائعا ذات يوم.
أخرج الورقة التي كانت مخبئة في جيبه، وأشار إلى التصميم الهندسي الذي أبدع
في رسمه. وراح يهز الورقة امامها بفخر انعكس على محياه
- أعذريني يا عزيزتي كنت منشغلا بهذه الفكرة،
لم أهدأ إلا بعد أن انهيت تخطيطها بشكل دقيق.
حدقت في وجهه النابض بالفرح، ثمة بريق مختلف في عينيه المتلئلئتان، وكأن شعاع من الأمل يخرج
منهما، ردت عليه بإعجاب: حقا إنه تصميم بالغ الدقة. ثم نظرت إليه بعتب وأردفت:
ولكن أهو مهم لهذه الدرجة التي تجعلك أصم عن سماع الهاتف؟
ابتسم بكل ثقة وقال: لا عليك ربما لا تدركين
الآن كيف أنه يستحق كل هذا. غدا عندما ترينه بأم عينيك ستأتين لتباركين لي هذا
النجاح غير المسبوق.
نظرت إليه بحيرة. وبعين يغالبها النعاس همست له بود: إني أتمنى لك التوفيق يا عزيزي، وأرجو
أن أراه قريبا على أرض الواقع؛ لأشاركك فرحتك.
في صباح اليوم التالي إنطلق الى البلدية وطرح عليهم فكرته، كان يشرح أدق
تفاصيلها بكل حماس.
بعد ان أنهى حديثه ، قال له مدير البلدية
بصوت رتيب :
- سننظر في الأمر، يبدو لي أنه مشروع جيد. ولكننا لا نستطيع الرد عليك بشيء الآن. نحتاج إلى عقد جلسة نجتمع فيها بالخبراء والمسئولين حتى نبت في الأمر.
- سننظر في الأمر، يبدو لي أنه مشروع جيد. ولكننا لا نستطيع الرد عليك بشيء الآن. نحتاج إلى عقد جلسة نجتمع فيها بالخبراء والمسئولين حتى نبت في الأمر.
ثم قدم له ورقة وطلب منه تدوين بياناته
ليتمكنوا من التواصل معه.
خرج من مبنى البلديه وهو يردد : مشروع جيد!،
مشروع جيد!، أيها المدير لقد خانك التعبير، كان يجدر بك القول أنه مشروع ممتاز.
لكن لا بأس سأنتظر ردكم بفارغ الصبر.
مر إسبوعان ولم يأتي الرد. رأته زوجته يذرع الغرفة جية وذهابا وهو يحدق في الهاتف الساكن في الزاوية من حين لآخر.أخبرته بأن الأمر قد يكون أصعب مما يظن ولابد له ان ينتظر، لذا اخذ بكلامها مصبرا نفسه. كان يمني نفسه بسماع خبر سعيد، يجدد الحماس في داخله. وكان يطيل التحديق في
سماعة الهاتف، و تنتفض كل ذرة من كيانه عندما يسمع صوت رنينه، ولكنها سرعان ما
تهدأ وتسكن في خنوع يائس.
بعد طول انتظار قرر الذهاب إليهم مرة أخرى،
قال في نفسه لعلهم فقدوا رقم هاتفي، من يدري كل شيء محتمل.
لم تغب عن عينه رؤية نظرة الاستياء في وجه
مدير البلدية لمجرد رؤيته، وعندما سأله عن المشروع رد عليه المدير بضيق: لم انت
عجول يا رجل؟ لقد اخبرتك بأننا سندرس الأمر. إن هذه المسألة تحتاج لخطط وإستراتيجيات دقيقة. لا شيء في هذه
الحياة يحدث في يوم وليلة يا أخي.
خرج هذه المره من مبنى البلدية يجر أذيال
الأسف والخيبه. كان يتوقع ردا غير هذا، او على الأقل تمنى أسلوبا
لائقا يواسي حلمه الذي بدأ يفتر.
ومرت الأشهر والإتصال لم ياتِ، كلما هم برفع
السماعة ليستفسر تناهت إليه عبارات المدير
" نحتاج لعقد جلسه" " المسألة تحتاج لخطط وإستراتيجيات"
" لا تقلق سندرس الأمر" " لا تكن عجولا" وشيئا فشيء تلاشى
الحلم ، وقد يأس من إمكانية تحقيقه.
بعد مرور السنوات كان المهندس الذي غدا مسنا
يتكئ على عصاه يمشي عائدا إلى منزله بالقرب من مبنى البلدية، وبينما هو كذلك إذا بالرياح تطاير الأوراق المكدسه أمام مبنى
البلدية. إلتصقت ورقة صفراء بوجهه. أمسكها بيد ترتعش. إتسعت حدقتا عينيه
للحظه ثم أغمضهما بألم . عبرت دمعة حارة تجاعيد وجهه لتسقط على الورقة.
أنزل يده التي كانت تمسك بمشروعه القديم
بتثاقل كبير، عاتب نفسه التي سمحت له بأن يحلم بهكذا مشروع، ولم تذكره بأنه يعيش
في مجتمع يغتال الإبداع والمبدعين.
تساقطت الدموع من عينية وراح يردد : رحمة الله
عليك يا حلمي قتلوك في مهدك، فصبرٌ جميل.
أخرج قلم من جيبه وكتب على الورقة "
تم إغتيال الحلم الأغر"، علقها في الجدار ومضى.
تمت.